تتجدّد في لبنان اليوم أزمة تشكيل الحكومة، في ظل التجاذبات السياسية والمذهبية، والتي يمكن وصفها بأنها أزمة نظام وليست مجرد أزمة سياسية عابرة. الخلل الجوهري الذي يعتري التركيبة السياسية للنظام اللبناني يكمن في بنية النظام نفسه القاصرة عن إدارة التعددية اللبنانية منذ نشأة الكيان، وأصبحت في ما بعد غير قادرة على استيعاب التغيرات الاجتماعية والديموغرافية والسياسية التي طرأت على لبنان، مع بروز في العقود الأخيرة، مسألة إعادة تموضع المكون الشيعي في النظام السياسي، التي أخذت أبعادًا جديدة تتطلب إعادة نظر شاملة في طبيعة هذا النظام وآليات عمله.
إن النظام السياسي في لبنان، بني على أسس تشاركية مذهبية-طائفية، وقد بين الدستور اللبناني مع تعديلاته سبل إدارة هذه التشاركية، إلى جانب ميثاق 1943 الوطني، بين المسيحيين والمسلمين.
رغم كل هذه القواعد الدستورية والتنظيمية، إلا أن النظام عجز عبر العقود عن تحقيق المساواة بين المكونات المختلفة في إدارة شؤون البلاد، لتختلط الطموحات السياسية، بالحقوق المذهبية، وتصبح المطالب السياسية المختلفة وكأنها حقوق مذهبية، وهي في الواقع مساع لتحقيق مكاسب سلطوية. كل المذاهب مارست هذا الأسلوب، وكان النجاح من نصيب بعض هذه المكونات المذهبية على فترات من الزمن، انطلقت مع المارونية السياسية، وكان آخرها الشيعية السياسية.
اليوم، يظهر المكون الشيعي في قلب النقاشات السياسية، مع سعيه لإعادة التموضع في النظام من خلال تعزيز دوره في السلطة التنفيذية. هذا السعي ليس وليد اللحظة، بل هو تراكم لتاريخ من الممارسة السياسية منذ اتفاق الطائف، إلا أن التحولات التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة أوضحت أن هذا السعي تجاوز المطالبة بالحقوق نحو السيطرة على مفاصل النظام، واليوم يستمر النهج نفسه، من خلال تكريس هذه السيطرة رغم كل المتغيرات.
خلال العقود الماضية، تمكن المكون الشيعي، ممثلًا بحزب الله وحركة أمل، من القبض على مواقع أساسية في السلطة التنفيذية، بما في ذلك مواقع رئاسة الجمهورية والحكومة، رغم تفاوت نسبة إحكام القبضة بين عهد آخر. ومع تغير موازين القوى مؤخرا، فقدت القوى السياسية الشيعية تأثيرها الكبير على موقعي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، مما تركها مع المساحة الأخيرة في السلطة التنفيذية: الحكومة.
إن هذا السعي المستمر للسيطرة على السلطة التنفيذية جذوره في فائض القوة المتخيل لدى هذه القوى، وهو ما يعكس عدم انسجام هذا التمركز السلطوي مع البنية العامة للنظام السياسي اللبناني. فالطبيعة التوافقية التي قام عليها النظام أصبحت غير فاعلة، في ظل عدم التوازن بين المكونات المختلفة.
آن الأوان لإعادة النظر في بنية النظام السياسي اللبناني ليكون أكثر عدلًا في إدارة التعددية. لا يمكن للنظام الحالي أن يستمر بالاعتماد على نظام المحاصصة الطائفية الذي يولد شعورًا دائمًا بالغبن لدى المكونات المختلفة.
إن بناء دولة فدرالية قائمة على مبادئ المواطنة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية هو الخيار الوحيد لضمان استقرار لبنان على المدى الطويل.
يتطلب هذا التحول إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، وهو ما يبدو غائبًا في الوقت الحالي. لكن التحديات التي تواجه لبنان اليوم قد تكون فرصة لإعادة التفكير في الأسس التي بني عليها النظام، بعيدًا عن الحسابات المذهبية الضيقة.
الأزمة في لبنان ليست مجرد أزمة سياسية ناتجة عن خلافات بين القوى المختلفة، بل هي أزمة بنيوية تتعلق بطبيعة النظام السياسي نفسه، وإن استمرار النظام الحالي على ما هو عليه سيؤدي إلى تعميق الانقسامات وتهديد وحدة البلاد.
الفدرالية هي أبرز الحلول، لكنها لن تكون فعالة إلا إذا تم تطبيقها ضمن إطار يضمن العدالة والمساواة بين جميع المكونات.
في ضوء هذا الوضع، نجدد التأكيد على خيار الفدرالية التوافقية، لإعادة صياغة النظام السياسي اللبناني بما يضمن العدالة بين المكونات المختلفة. ليست الفدرالية حلًا جديدًا أو مبتكرًا في السياق اللبناني، بل هي تطوير للفدرالية المشوهة، والقائمة في بنية النظام السياسي اللبناني منذ ما قبل تأسيس الكيان.
والفدرالية، لم تكن يوما رد فعل على المشكلات السياسية، بل إجابة على حل المشكلات البنيوية في النظام السياسي، من أجل إدارة التنوع المذهبي في لبنان. وما يجعل الفدرالية اليوم ضرورة ملحة هو السياق الإقليمي الذي يتجه نحو هذا النموذج في إدارة التعددية المذهبية الدينية والإثنية، فمن العراق إلى سوريا تظهر الفدرالية كإطار لإدارة الدول ذات التركيبة المتنوعة، وربما الأردن في المستقبل، كنموذج مبتكر لحل القضية الفلسطينية.
اليوم، لا بد من أن ندرك أن الوقت قد حان لإعادة بناء النظام السياسي اللبناني على أسس جديدة تضمن استيعاب التنوع، وتحقيق العدالة، وإدارة التعددية بشكل أكثر كفاءة وعدلًا. الفدرالية ليست مجرد بنية دستورية، بل تحتاج إلى ثقافة سياسية واجتماعية تقوم على احترام التعددية والقبول بالآخر، وهذا يتطلب جهدًا مكثفًا لإعادة بناء الثقة بين اللبنانيين، التي تآكلت بسبب الصراعات السياسية والاقتصادية على مدار السنوات.
التحول نحو الفدرالية التوافقية ليس خيارًا، بل ضرورة لبقاء لبنان دولة موحدة ومستقرة.