منذ الاستقلال عام 1943، يحاول اللبنانيون إيجاد "الحلول الوسط" لجميع قضايا دولتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والدبلوماسية وحتى العسكرية والأمنية. وقد انطلقت هذه الحلول الوسط من ميثاق 1943، الذي كان يعكس تكوين الشعب اللبناني المتعدد الطوائف، والذي يضم سبع عشرة طائفة دينية تاريخية. هذه الطوائف انقسمت تلقائياً إلى مجموعتين حضاريتين مختلفتين: مجموعة مسيحية ذات نزعة غربية، وأخرى إسلامية ذات نزعة عربية.
كان التوفيق دائماً صعباً بين وجهتي نظر المسيحيين والمسلمين بشأن قضايا الدولة والحكم. ولإدارة شؤون الدولة في ظل نظام 1943، تم تبني نظرية "الحلول الوسط"، التي تحولت عملياً إلى نظرية "اللاحلول"، مما أدى إلى حالة من الجمود. ونتيجة لذلك، تراكمت على مدى خمسة وثلاثين عاماً مشاكل حكم ضخمة دون حلول، شملت مشاكل سياسية، واجتماعية-اقتصادية، وأمنية داخلية.
ما فجر الدولة بشكل نهائي كان تحديداً تلك المشاكل الأمنية والعسكرية المتراكمة. فالدولة اللبنانية، على مدى ثلاثة عقود، لم تتمكن من فرض سيطرتها الأمنية على كامل أراضيها، ولم تستطع إيجاد حلول جذرية لأي من مشاكل الحكم، أو من القضايا المرتبطة بشعوب العصر الحديث. إن نظرة سريعة على برامج حوالى خمسين حكومة تعاقبت على حكم لبنان منذ عام 1943 وحتى عام 1978، تكشف عن حقيقة مؤلمة؛ نفس القضايا التي كانت تنتظر الحلول منذ عام 1943 لا تزال تراوح مكانها، دون أي تقدم يُذكر.
ورغم ذلك، فإن جميع الحكومات التي تعاقبت، كانت تعيد إدراج القضايا ذاتها في برامجها لنيل الثقة، ودائماً ما كانت تنال الثقة. أما الشعب اللبناني، الذي وجد نفسه عالقاً في وسط طريق مسدود، فقد بات يردد عبارة "ما في دولة"، إلى أن أصبح هذا الطريق أكثر خطورة بفعل الحروب والعنف الداخلي والخارجي. وقد حل الموت والدمار في "وسط الطريق".
بهذه الكلمات، افتتح الأستاذ خير الله غانم مقدمة كتابه الراديكالية في السياسة اللبنانية، الذي نُشر عام 1976. غانم كان من أبرز مفكري ومنظري "مجلس البحوث للتنمية والسلام"، الذي كان يزوّد "الجبهة اللبنانية" بالدراسات والتقارير والأبحاث في تلك الحقبة. للأسف، ما زالت هذه المقدمة تصف بدقة ما تشعر به الأجيال اللبنانية التي لم تولد خلال الحرب الأهلية، بل وحتى تلك التي وُلدت بعد انتهاء الأعمال العسكرية ودخول لبنان مرحلة وثيقة الوفاق الوطني، أو ما يُعرف بـ "اتفاق الطائف"، الذي شُوِّه بدوره بفعل الاحتلال السوري والاستدخال الإيراني، كما وصف الأستاذ وضاح شرارة.
اليوم، ومع التغيرات الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها سقوط نظام الأسد الذي كان السبب الرئيسي لعدم قيام الدولة، وانحسار القوة العسكرية لـ "حزب الله" وزوال الذرائع التي كانت تُستخدم لتبرير وجود السلاح خارج إطار الدولة، أصبح من الضروري إعادة النظر في آليات تطبيق النظام السياسي اللبناني. هذه اللحظة التاريخية تشكل فرصة لقيام دولة حقيقية في لبنان.
النظام اللبناني في جوهره نموذج سياسي فريد، لكنه بحاجة إلى رجال دولة يتمتعون بالمرونة والاحترافية لإدارته بفعالية. المطلوب اليوم قيادات سياسية تمتلك الشجاعة لاتخاذ قرارات صعبة، وتضع مصلحة لبنان فوق أي اعتبار. هؤلاء القادة يجب أن يعملوا على تعزيز ثقافة الدولة المدنية وسيادة القانون، وتطوير المؤسسات وعدم الرضوخ لأي ابتزاز من أي فلول ميليشيا مسلحة أو حسابات داخلية ضيقة.
بالتزامن مع المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، تبرز فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة اللبنانية بروحية الميثاق الوطني، لكن بصيغة مختلفة تتلاءم مع متطلبات العصر. هذه الصيغة الجديدة يجب أن ترتكز على حقيقة تعددية المجتمع، ومبادئ الدولة المدنية وسيادة القانون، مع تعزيز مؤسسات الدولة بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويضمن استقلالية القرار الوطني بعيدًا عن أي تدخلات خارجية أو اعتبارات طائفية.