د. جوسلين البستاني

المسمار الأخير في نعش المشروع الإيراني

لا تهمّنا الأحداث الدولية والإقليمية بحدّ ذاتها بقدر ما يهمّنا وقعها على لبنان. وإذا كانت الأنظار حالياً متّجهة نحو واشنطن والقرار الذي سيتّخذه دونالد ترامب حِيال إيران، فلأن وقعه قد يُشكّل المرحلة الأخيرة في مسيرة تحرير لبنان من قبضة طهران وسطوة "حزب الله". هذه المسيرة التي بدأت يوم اتّخذ ترامب قرار تصفية قاسم سليماني، فدقّ المسمار الأول في نعش المشروع الإيراني في الشرق الأوسط. خسر ترامب انتخابات 2020 ودخل الصراع بين واشنطن وطهران مرحلة الهدنة إلى أن حصل هجوم السابع من أكتوبر 2023 الذي انتهى بتراجع هيمنة إيران في المنطقة. عاد ترامب إلى البيت الأبيض وإذا بالنظام الإيراني يواجه قرار الحسم: مُحاولة الوصول إلى قوة نووية عسكرية علماً أنها تنطوي على مُخاطرة جرّ خصومه إلى ضربة استباقية أو الإشارة إلى استعداده للتفاوض مع الإدارة الجديدة. جرى أول اجتماع بين الإيرانيين وممثلين عن فرنسا، ألمانيا وبريطانيا في جنيف في تشرين الثاني 2024، ثم في كانون الثاني 2025، بهدف الوصول إلى حلّ ديبلوماسي للملف النووي وإرسال إشارات إيجابية إلى ترامب. لكن المعروف عن الإيرانيين أنهم أسياد في تأخير المحتوم، وقد سبق ولجأوا إلى هذه القناة الدبلوماسية قبل 20 عاماً عملوا خلالها بالتوازي على تطوير قدراتهم النووية التي يبدو أنهم اقتربوا منها، ما أكّده مؤخراً المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي.


الأهمّ، ما هو موقف طهران بعد حرب غزّة ولبنان؟ في الواقع، لم يُلحظ أي تغيير في تطلّعات وسياسة النظام الإيراني الذي لا يزال يقوم بمناورات عسكرية ويستعرض ما يملك من ذخائر جديدة، ولم تتأثّر علاقاته مع مختلف وكلائه. بالطبع، بعد سقوط الأسد سيحاول بناء طريق إمداد أخرى لضخّ الأسلحة والأموال أكثر في لبنان وإظهار أنه ما زال لاعباً أساسياً على الرغم من أزمته الإقتصادية، وأن "حزب الله" ما زال موجوداً. بانتظار الطريق الجديد، ضبط مؤخّراً الأمن السوري شحنة أسلحة كانت مُتّجهة إلى "حزب الله". الواضح أن إيران تحوّلت من دولة مُهيمنة في المنطقة إلى دولة تشبه إلى حدّ كبير كوريا الشمالية، ضعيفة لكن مؤذية. بالمُحصّلة يُشكّل سباق النظام إلى خط النهاية النووي الأمل الأخير للحفاظ على نوع من الهيمنة الإقليمية.


من الملاحظ كذلك وجود خبراء تقييم استراتيجي في إيران يحاولون معرفة ردّ فعل ترامب حِيال ملامسة إيران العتبة النووية. وما إذا كانت الأولوية المنخفضة التي تمنحها إدارته للشرق الأوسط قد تفتح نافذة للتفاوض. لذلك، نشهد عملية تأثير مُكثّفة يقوم بها النظام الإيراني، تتمثلّ بحملة تضليل ناعمة اجتاحت الولايات المتحدة وأوروبا وصولاً إلى دافوس، تجلّت بمقابلات ومقالات لِنائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية جواد ظريف الذي لُقّب بسيّد التضليل. هو الذي اعترف في كتابه الصادر باللغة الفارسية عام 2021 عن المحادثات النووية بعنوان "السر المختوم" كيف تلاعب بالمفاوضات وأدار عملية تأثير عُرفت بـ "مبادرة خبراء إيران"، أوصلت إلى الاتفاق النووي الذي تمّ إبرامه في تموز 2015. والذي قال عنه ديفيد أولبرايت، مفتش الأسلحة السابق في الأمم المتحدة: "ما كان الإيرانيون يبحثون عنه كان واضحاً تماماً: لقد أرادوا عدم وجود معايير". إن اختيار جواد ظريف له دلالات سياسية أهمّها أن إيران ما زالت تعتمد استراتيجية الإلهاء والخداع. بالتالي، سعيها وراء التفاوض هدفه كالعادة كسب الوقت ريثما تنتهي ولاية ترامب، تماماً كما قال كيسنجر "عندما يريد رجال الدولة كسب الوقت، يعرضون التحدث".


صحيح أن إيران ليست على رأس جدول أعمال ترامب، لكنها ستكون اختباراً لسياسته الخارجية، هو الذي يريد أن يكون إرثه إرث صانع السلام. لكنه يُدرك أن السلام يحتاج إلى القوة أحياناً لتحقيقه. كما أعرب عن انفتاحه على تجديد الاتفاق النووي من دون تنازلات. والأمر لا يتعلّق فقط بالشرق الأوسط بل أيضاً بتأثير إيران على الساحة الأوكرانية ودعمها لروسيا، وتحدّيها حلف "الناتو". إضافة إلى أن الإدارة الجديدة، التي لن تسمح لإيران في الوصول إلى السلاح النووي، تضمّ خبراء في سياسة المراوغة الإيرانية لديهم توقّعات متواضعة عن المرونة التي يُظهرها النظام.


بالتالي، وتوازياً مع تعزيز العقوبات والجاهزية العسكرية، ستُعطى إيران فرصة محدودة زمنياً، فإذا لم تلتزم سيتمّ اللجوء إلى القوة ومن ثم يليها "التحدّث".