شهد الشرق الأوسط طوال السنوات الثلاثين الماضية إنسياقاً نحو تطبيق عقيدة صهيونية في الهيمنة على مجتمعات تعددية، وهي وسيلة متّبعة في إسرائيل تجاه المكّون العربي لإخضاعه. انتشرت ممارسة هذه العقيدة بالعدوى إلى مجتمعات مجاورة. عمل نظام الأسد المخلوع والنظام الإيراني المنكفئ على تمدد هذه العقيدة لبنانياً وعربياً بهدف شل الحكم وتعطيله في دول تمتد من اليمن إلى لبنان في شرق المتوسط مروراً بسوريا والعراق والسودان وليبيا. جرى مأسسة وسائل التعطيل وشل الحكم في كل مجتمع وفق الشكل الذي يناسبه، لذلك اتخذت هذه الإيديولوجيا أشكالاً مختلفة بين مجتمع وآخر، ولكنها تلتقي على شل الحكم. هنا نقصر الشرح على الحالة اللبنانية.
في لبنان، تلبّست إيديولوجيا الهيمنة شكل تعطيل الحكم ومأسسة منظومة زبائنية للسيطرة على الدولة واستغلالها لمصالح خارجية وأخرى داخلية فئوية بهدف الحصول على امتيازات تفضيلية لأفراد الفئات الساعية إلى الهيمنة. نذكر في هذا السياق، العمل الدؤوب لقيام دويلة تتمتع بسلطات فوق سلطة الدولة أثبتت التجربة لاحقاً أنها أساءت تقدير قوتها حيث لم تتمكن من دفع الهزيمة وحماية نفسها ومحازبيها. واللجوء إلى مناورات تعطيل انتخابات رئاسة الدولة في لبنان التي مارسها "الثنائي" وملحقاته من أذرع نظام الأسد والجمهورية الإسلامية ما بين 1988 و2025، واشتراط قيام حوار مسبق لتحويل انتخاب رئيس الدولة إلى ما يشبه التعيين خلافاً لمنطوق المادة 49 من الدستور، وإفراغاً لها وللنظام الديمقراطي من محتواهما.
هذا بالإضافة إلى المغالاة في إظهار الحرص على تشكيل حكومات "وحدة وطنية" أو "وفاق وطني" لم تكن تقتضيها حالة البلاد لانتفاء الظروف الاستثنائية ولعدم الحاجة إليها سوى لدى الساعين إلى الهيمنة لشلّ قرار الحكومة وعرقلة عملها وسلطتها الإجرائية. تمّ خرق مبدأ الفصل بين السلطات واغتصاب سيادة الدولة، إن بإنشاء مربعات أمنية أو بتهديد القضاة وبينهم القاضي الناظر في قضية انفجار مرفأ بيروت. وما التشبّث بحقيبة المالية خلافاً لمبدأ المداورة في الحقائب الوزارية سوى حلقة من حلقات عقيدة التعطيل والهيمنة، ونقيضاً لما يقوله الرئيس المكلف الدكتور نواف سلام بأن "لا حقيبة حكر على طائفة، ولا حقيبة ممنوعة على طائفة" (21/1/2025). وكتب الرئيس السابق للحزب التقدمي وليد جنبلاط أن "إسرائيل هي المستفيد الأول من عدم تشكيل الحكومة في لبنان، وبالتالي تعطيل انطلاقة العهد، لأنها لن تغفر لنواف سلام حكمه التاريخي في المحكمة الدولية"، مشدداً على دعوة "جميع الفرقاء من دون استثناء إلى تسهيل مهمته والخروج من لعبة الزواريب" (منصة X، 25/1/2025، الساعة 9:55 صباحاً).
من الأخطاء الجسيمة في تشكيل الحكومة إعادة تكرار تجربة الحكومات التي تألفت منذ التسعينات على شاكلة برلمان مصغّر لإلغاء المعارضة ومبدأ المحاسبة، أو العودة إلى البحث في المحاصصة أو الفيتو أو وضع العوائق امام تشكيلها لأنها تُنتج نموذج حكومة مناكفة ومقاطعة (على شاكلة حكومة نتنياهو ومناكفات سموتريش وبن غفير وغالانت...) وتبادل منافع وفساد على حساب العمل والانتاج والمصلحة العامة. مارست أحزاب وكتل برلمانية التحاصص إلى أقصى مداه، نقيضاً لما نصت عليه المادة 95 من الدستور التي قضت بوضوح بأن "تُمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة".
إن الفرصة اليوم متاحة لتشكيل حكومة كفاءات وطاقات احتراماً للنصوص الدستورية، لا وفقاً لأهواء المعرقلين، وتقيّداً بالنص الذي يمنح رئيس الجمهورية في ان: "يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم" (مادة 53-الفقرة 4). وما من شيء في الدستور اللبناني يتناقض مع تشكيل حكومة أكثرية تحكم مقابل أقلية تعارض.
صحيح إن الدستور لم يحدّد مهلة للرئيس المكلف لتشكيل الحكومة، إلا ان الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد والحاجة القصوى إلى الخلاص من الانهيار الكارثي الواقعة فيه تحتم الإسراع في تأليفها بدون إبطاء، وبأسرع ما يمكن حفاظاً على عمل المؤسسات الدستورية لاستعادة مناخات الثقة وإضفاء الأجواء الإيجابية والتعاون ولاسيما صورة العهد الجديد بقيادة الرئيس جوزاف عون وعناوين خطاب القسم، طموح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
الظروف اليوم سانحة للتخلص من تحكّم قوى خارجية باعت واشترت وقايضت وقبضت ثمناً مادياً على رؤوس اللبنانيين كسباً لمصالحها. الفرصة مؤاتية للتحرر من إيديولوجيا صهيونية نسجت نمطية من "ديمقراطية تسلطية" تغلغلت في ذهنية البعض في لبنان من خلال عقدة minority control أو dominant majority قامت على الاعتبار الخاطئ القائل بأن الإنقسامات في المجتمع السياسي هي دليل ضعف لا مؤشر عافية وديمقراطية، وفق ما يشرحه عالم الاجتماع السياسي الإسرائيلي Sammy Smooha الذي يلغي مفهوم المصلحة العامة الوطنية في الدولة-الأمة:
-Sammy Smooha, The Model Of Ethnic Democracy, Working Paper #13, European Centre For Minority Issues (ECMI), October 2001, 95 p.
-Sammy Smooha, “Minority status in an ethnic democracy: The status of the Arab minority in Israel”, Ethnic and Racial Studies, 13(3), 389–413, https://doi.org/10.1080/01419870.1990.9993679, Published online: 13 Sep 2010.
نجد ان إسرائيل وقعت في مأزق كبير ناجم عن أزمة القرار، مع وجود حكومة تعتمد على أحزاب دينية صغيرة جيء بأعضائها على طريقة "من كل وادي عصا"، بما يمثل نموذجاً مناقضاً لروحية المادة 65 في الدستور اللبناني، التي لم يفهمها كثيرون من القانونيين وليس من الحقوقيين. عالجت هذه المادة كل فلسفة النظام اللبناني لمنع طغيان أو هيمنة أكثريات على أقليات، ومنع استبداد الأقليات بالأكثريات وبالقرار الوطني abus de majorité/abus de minorité.
تنبع عقيدة Sammy Smooha من استحالة إدارة التعددية وتبرير هيمنة أقلية أو أكثرية نقيضاً لجوهر المادة 65 من الدستور اللبناني ومجمل التراث العربي طوال قرون، وكل الفكر الديمقراطي.
*عميد المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية والإدارية والاقتصادية سابقاً في الجامعة اللبنانية