شربل داغر

"انتقام" سايكس - بيكو

28 أيلول 2020

02 : 00

حفلت الأدبيات القومية بين ناصرية وبعثية وخلافهما، ومنها بعض الأدبيات اليسارية، بنقد متعجرف وقاطع لما أقامته دولتا فرنسا وانكلترا في المشرق العربي من حدود ودول "مصطنعة". هذا ما عُرف باتفاقية سايكس - بيكو، اختصاراً باسمَي وزيري خارجية البلدين الاستعماريَين. تداخلت في هذا النقد الرغبة في النشوء كما في الرفض: الرغبة في نشوء دولة "قومية" غير تجزيئية لـ"الشعب" العربي، أي الواحد في نظرهم، وغير تقسيمية لحدوده الواحدة والأكيدة في نظرهم.

فات هؤلاء الدعاة ان "الجمهورية العربية المتحدة" تساقطت بخفة فظيعة في عهد جمال عبد الناصر. وفاتَهم أن جناحَي البعث الحاكمَين في العراق وسورية شهدا أوسع صراع دموي بين الأخوين... اللدودين.

كان هذا في الماضي القريب، حيث حلَّ "التزعم" محل التمثيل الديموقراطي، وكسبُ الغنيمة وراء ستار الأيديولوجيات والأحزاب...

أما المتابع، اليوم، فيتحقق مما هو أدهى. فما يُسمى "الدولة" بات حكامُها دون سلطة شيخ القبيلة، وأقرب إلى سلطة زعيم المافيا.

أما "الشعب" فقد تكشّفَ أنه دون الملة والطائفة والجهة الجغرافية وغيرها من محددات الهوية، وأنه بعيدٌ عن مصالح الجمهور الجامعة.

هذا فيما يتصرف الإسلام السياسي، في عملياته العنفية الكاسحة والمتبادَلة بين مذاهبه، بما هو اشنع مِما عرفَه العرب من... الفرنجة الصليبيين.

والأشد مرارة في هذا المشهد هو أن "الانقلاب" تحول إلى "ثورة"، وأن العنف التحريري تحول إلى استبداد المخابرات في رقاب شعبها قبل عدوها.

ما رسمتْه اتفاقية سايكس - بيكو قبل نيف ومئة عام كان إمكانَ دولة، وتحديدَ شعب، في داخل مؤسسات، وفي احتكام إلى القانون، بإدارة أجنبية مباشرة. لهذا ما ان توقفت هذه الإدارة، وخرجت من هذه الدول، استعادت القوى المحرِّكة لمجتمعاتها "تلقائيتها" التقليدية، وهي أنها لم تعرف - في تاريخها الإسلامي - مفهوم الدولة والمؤسسات بل الغلبة والمنفعة، وأنها لم تتشكل في شعب أو شعوب، وإنما في أمة ومذاهب وجماعات...

ألهذا يكون السؤال البديهي ما كتبتُ قبل سنوات: ماذا فعلت بالاستقلال، يا بابا؟

والدليل أن شابات وشباناً في بيروت المنكوبة نادوا علناً بما يقوله غيرُهم في صمت في مدن عربية أخرى: ما أحلى العودة إلى أيام... الاستعمار!


MISS 3