يمرّ لبنان ككل مرّة بأزمة وجودية عميقة، تُعزى في جوهرها إلى نظامه السياسي نفسه: نظام مركزي توافقيّ صُمّم لضمان حدّ أدنى من الاستقرار، لكنّه في الواقع يخنق أي إمكانية للإصلاح الحقيقي والازدهار المستدام.
تعود جذور هذا المأزق إلى اتفاق الطائف (1989)، الذي وإن كان قد أنهى الحرب الأهلية، فإنه لم يكن يوماً آليةً لحكم فعّال. لقد كان تسويةً اضطرارية فرضت توازناً طائفياً جامداً، حيث أصبحت كلّ خطوة سياسية مرهونةً بتوافقٍ بين قوى طائفية متنافسة. وهكذا، بدلاً من إنتاج دينامكية سياسية، بات هذا النظام يُنتج سلاماً ساخناً، عاجزاً عن أن يتحوّل إلى مشروع وطني فعّال ومنتج.
ان عهد حكومة تمّام سلام (2014-2016) ورئاسة ميشال سليمان (2008-2014) يجسد هذا الجمود بأوضح صورة، فرغم تقديمهما كصيغتين للإجماع الوطني، لم تفرزا سوى بيانات مبدئية جوفاء — حول الحياد، ونزع سلاح الميليشيات، والإصلاح المؤسسي — من دون أن تتعدى هذه الطروحات حدود النوايا. والواقع أن الإجماع المركزي، بطبيعته، لا يُنتج سياسة حوكمة، بل يُنتج آلية تعطيل منهجية تُبطل أي قرار قد يصطدم بمصالح القوى الطائفية المتجذرة.
اليوم، يجد لبنان نفسه مشلولاً بين مشروعين سياسيين متناقضين: مشروع طائفي بقيادة حزب الله، يخدم أجندة إيرانية توسعية، ومشروع لبناني وطني فتي، يدافع عن السيادة والحرية، لكنه يفتقر إلى القوة السياسية لفرض رؤيته. وما يفعله النّظام المركزي التّوافقي هو منع هذا التصادم السياسي الضروري، وفرض تعايشٍ مصطنع يحول دون أي تداول ديمقراطي حقيقي، حتى عندما تُظهر صناديق الاقتراع غالبية واضحة، كما حدث مع القوات اللبنانية في الانتخابات الأخيرة. فبرغم حصولها على الأكثرية المسيحية، لم يتمكن رئيسها من الوصول إلى سدّة الرئاسة، ليس لأن هناك مشروعاً سياسياً وطنياً آخر فرض نفسه ديمقراطياً، بل لأن هذا النظام المركزي التوافقي، بطبيعته، يلتفّ دائما على نتائج الانتخابات من خلال فرض شخصيات توافقية، تُطرح تحت عنوان “الإجماع الوطني”، بعيداً عن الاعتبارات البرلمانية الديموقراطية الطبيعية.
في هذا الإطار، نجد أن هذا النظام نفسه هو الذي أنتج واقعاً سياسياً يُقدّم قائد الجيش جوزيف عون أو نواف سلام كشخصيتي إجماع وطني، يتجاوز منطق الأكثرية النيابية، كحلّ وسط يفرضه النظام التوافقي لتجاوز الاستحقاقات الدستورية، بدلاً من احترام المسارات الديمقراطية الطبيعية. لا يعني هذا انتقاداً شخصياً لهذه الشخصيات، بل هو توصيف دقيق لآلية سياسية معطِّلة تُقصي من يعبر عن إرادة شعبية واضحة لصالح شخصيات تُمثّل تسويات الحد الأدنى المقبول بين القوى الطائفية المتنازعة.
إن المخرج الوحيد من هذه الدائرة المقفلة، يكمن في تطبيق مشروع سياسي حقيقي، قادر على تجاوز الانقسامات الطائفية، وطرح بديل مقنع لهذه الآلية المُعطِّلة. وهذا يتطلّب لامركزية مدروسة، تحترم الهويات المجتمعية دون أن تُكبّلها في هرمية طائفية مركزية خانقة.
لقد حان الوقت للإقرار بحقيقة أساسية: النظام السياسي ليس مُكلّفاً بإنتاج الحبّ والانصهار بين المواطنين، بل بصناعة القانون، وفرض الواجبات، وإرساء إطار مشترك للحكم. وكما أثبتت النماذج الأميركية والبلجيكية والسويسرية، فإن الاستقرار لا ينبع من إنكار الاختلافات، بل من دمجها ضمن دولة القانون والمؤسسات.
لكي يتنفس لبنان أخيراً، عليه أن يتحرر من فخّ النّظام المركزي التوافقي، ويبني مستقبله على أسس العدالة والازدهار والثقة بالدولة، لا بالتّقاتل الطّائفي على هرميّة مركزيّة مكبِلة ومكبَلة منذ الولادة.
*طالب حقوق في جامعة اورليان - فرنسا