جوزيفين حبشي

رحل أبي ثانيةً... وداعاً أنطوان كرباج

أول مسرحيّة شاهدتها في حياتي، كان عمري 8 سنوات. يقولون كانت تُعرض على مسرح "كازينو لبنان"، ولا أدري لماذا أنا واثقة إلى هذه الدرجة، رغم صغر سني، أنني شاهدتها على مسرح "فندق البستان". يومها دخل أبي علينا، أنا وأمي وإخوتي وقال لنا بصوته الجهوري: "رايحين نحضر أنطوان كرباج".


ألبستني أمي يومها فستاناً خاطته لي زوجة عمي بمناسبة "عيد الشعانين". فالذهاب إلى المسرح كان بالنسبة لعائلتي هو الآخر عيداً. لا أزال أذكر الفستان، أبيض وعليه فراشات زرقاء تطير، ولكنها لا تغنّي كالطيور.


كلّ ما أذكره من المسرحية، أغنية لا تزال نغمتها وكلماتها تتردد في ذهني حتى اليوم "نحنا عَيلة بو سَيْكوني، بْنَيَّات اسم الله يا عيوني، سبعة حلوين وزقطين…" لا أذكر أكثر من أغنية مسرحية "القبقاب" التي كانت تروي على ما أظن، قصة رجل لديه 7 بنات، ويأتيه عريس لإحدى بناته، ليتبيّن أنه "طالب إيد" الأم. لا أذكر المسرحية ولكنني أذكر جيداً مدى إعجاب "بطل حياتي" بالبطل الذي حقّق صولات وجولات وانتصارات في ميادين المسرح والتلفزيون والفن بالمطلق.


"أنطوان كرباج قبضاي ومهضوم، متلي"، هكذا كان يقول أبي، ومعه حق، ولكنّ الشبه بين "بطل حياتي" و "بطل الفن" لم يقف فقط عند الهضامة والشجاعة. تماماً مثل أنطوان كرباج في مسرحية "القبقاب"، كان أبي "أبو البنات" (اللّقب المحبّب على قلبه)، وكنّا نحنا "عَيلة بو شربولي، بْنَيَّات اسم الله يا عيوني، 4 ومش 7 حلوين وزقطين".



تماماً مثل أنطوان كرباج، كان "بطل حياتي" عاشقاً للتمثيل بالفطرة، ومسرحيات بطولاته ومشاغباته وهو طفل في دير الأحمر، كانت متعتنا الليلية خلال طفولتنا وشبابنا. تُرفع الستارة كلّ مساء وينطلق العرض على طريقة "one man show"، أمام عيوننا المبهورة بقصصه التي لم تترك إخوته وأبناء عمه وشجر التين وسهل البطيخ و "قن دجاج" زوجة عمه من "شرّه". مسرحيات كنّا نتابعها يومياً، وفي كل مرّة نستمتع ونضحك وكأنها المرّة الاولى التي نشاهدها.


يوم أصبحت في السابعة عشرة من عمري، وقلت له إنني أريد أخذ دروس تمثيل في "محترف المسرح البلدي" الذي كان يديره جوزف بو نصار في مبنى "ثانوية الجديدة للبنات"، كان شرطه أنه يريد أخذ دروس معي. أصرّ، فهو لم ينسَ المتعة التي شعر بها يوم دعانا جوزف بو نصار لمشاهدة استعادة مسرحية "صانع الاحلام"، ولا أنا نسيت كيف خرج من المسرح، وسار على الطريق باتجاه سيارته وهو يلوّح بيده التي تحوّلت سيفاً، مردِّداً جملاً من المسرحية. كان شرطه أنه يريد أخذ دروس تمثيل معي. أصرّ ، ولكنني رفضت "شو بدّن يقولوا؟ جايبة بيّا معا؟".



تماماً مثل أنطوان كرباج، أحبّ "بربر آغا حياتي"، طوال حياته، المسرح ولبنان والحق والعدل والدفاع عن المظلوم. ومثل أنطوان كرباج تبخّرت ذاكرته وسبقته ذكرياته للرحيل قبل رحيله، فأنساه المرض من هو، ولم ننسَ نحن أنه "بطل أجمل أيام حياتنا"، وأحلى أحلامنا، وأمتع ذكرياتنا.



هنا على الأرض، المرض اغتال ذاكرة كلّ من "بطل حياتي" و "بطل الفن". هناك، في المقلب الآخر من الحياة، سيذكر أبي أنه كان عاشقاً لأنطوان كرباج. سيستقبله حتماً بالترحاب، سيلوّح له بيده كالسيف، خابطاً قدمه بالدّبكة التي كان يعشقها، مغنّياً له بصوته الجهوري: "بربر آغا سيّد عصرو وزمانو فارس مغوار قاضي العدل ميزانو".



"بطل حياتي" سيلتقي أخيراً "بطل حياته"، ويا الله كم سيستمتعان معاً وسيمثلان أفلاماً و "يفبركان"مسرحيات ويخلقان معاً ذكريات جديدة.