اكتمل عقد التعيينات على مستوى القيادات الأمنية، في مشهد يعكس ولاء شبه تام للرئيس جوزاف عون، مما يشير إلى انطلاق فعلي لما يمكن وصفه بـ"العهد الشهابي الثاني". هذا التحول يأتي في سياق القطع مع المنظومة السابقة بقيادة "حزب الله"، والتي ورثها عن القبضة الأمنية السورية التي حكمت لبنان منذ بداية التسعينات.
الحقبة السورية تميّزت بهيمنة مطلقة على القرار الأمني والعسكري والسياسة الخارجية، في مقابل حرية نسبية للرئيس رفيق الحريري في إدارة الملف الاقتصادي، وهي المعادلة ذاتها التي اعتمدها "حزب الله" لاحقاً، بغطاء إيراني وسوري جزئي.
واليوم، المعادلة هي نفسها بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، أي الأمن والخارجية من اختصاص الرئاسة الأولى، والإصلاح مع الاقتصاد من اختصاص الرئاسة الثالثة. أما الرئاسة الثانية، فتلعب دوراً محورياً في إدارة التوافقات السياسية، وضمان تمثيل المكوّن الشيعي في المعادلة الوطنية الجديدة، خصوصاً في ظل التغييرات الجذرية التي تطال مواقع النفوذ داخل الدولة.
عملياً، ستنطلق الحكومة بورشة إصلاحية شاملة على مختلف المستويات، مركّزة على القضايا الاقتصادية والإدارية والمالية والخدماتية، بهدف تحقيق التعافي الاقتصادي وتعزيز ثقة المواطنين والمجتمع الدولي بالدولة اللبنانية. في المقابل، سيوجّه رئيس الجمهورية جهوده، بالتنسيق مع فريقه الأمني والعسكري، نحو تعزيز الاستقرار الأمني، عبر استراتيجية متكاملة تشمل الوزارات المعنية والأجهزة الأمنية والعسكرية.
ويمكن الاستدلال على مسألة توزيع الأدوار، من خلال المواقف المعلنة حول احتكار الدولة للسلاح، حيث يبدو أن هذه من مهام رئيس الجمهورية، بشكل مباشر، فالبيان الوزاري للحكومة شدد على أنها "تعمل على تنفيذ ما ورد في خطاب القسم للسيد رئيس الجمهورية حول واجب الدولة في احتكار حمل السلاح".
ولكن كيف يمكن لرئيس الجمهورية أن يقوم بممارسة مهام تنفيذية مباشرة، في وقت الصلاحيات التنفيذية الرئيسة تعود إلى الحكومة؟ مما لا شك فيه أن هذا سيرتبط بدينامية العلاقة بين الرئيس والحكومة، ولكن في هذه المسألة بالتحديد، يمكن الاستدلال من فقرة احتكار السلاح، الواردة في خطاب القسم لرئيس الجمهورية.
وقد ورد في الخطاب، مجموعة من المبادئ والمحاور التي تُجسّد رؤية وطنية شاملة لبناء دولة قوية تُعزز سيادة القانون، ولكن الملفت كانت الفقرة التي أشار فيها إلى المجلس الأعلى للدفاع بصفته رئيسا للمجلس، عند التأكيد على حق الدولة في احتكار السلاح، حيث قال: "عهدي أن أمارس دوري كقائد أعلى للقوات المسلّحة وكرئيس للمجلس الأعلى للدفاع بحيث أعمل من خلالهما على تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح. دولة تستثمر في جيشها ليضبط الحدود ويساهم في تثبيتها جنوباً وترسيمها شرقاً وشمالاً وبحراً ويمنع التهريب ويحارب الإرهاب ويحفظ وحدة الأراضي اللبنانية ويطبق القرارات الدولية ويحترم اتفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الاسرائيلية على الأراضي اللبنانية، جيش لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقاً لأحكام الدستور".
أهمية الإشارة إلى المجلس الأعلى للدفاع، تكمن في قدرة رئيس الجمهورية في الاعتماد على هذا المجلس، وعلى المديرية العامة لأمن الدولة التابعة له، في تحريك الملفات المختلفة، وإدارتها من خلال الصلاحيات الممنوحة للمجلس.
إن المجلس الأعلى للدفاع هو العمود الفقري في منظومة الأمن الوطني اللبناني، وهو الهيئة التي تنسّق الجهود الدفاعية وتضع السياسات اللازمة لحفظ استقرار البلاد. وقد أُنشئ المجلس بموجب قانون الدفاع الوطني رقم 102 لعام 1983، ويُعتبر منصة لاتخاذ القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالأمن والدفاع.
يترأس المجلس رئيس الجمهورية ويضم رئيس الوزراء كنائب للرئيس، إضافة إلى وزراء الدفاع، الداخلية، الخارجية، المالية، والاقتصاد، ويحق لرئيس المجلس أن يستدعي من يشاء ممن تقضي طبيعة أعمال المجلس حضورهم، مع إمكانية إضافة أعضاء جدد عند الضرورة بموجب مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء. يقرر المجلس الأعلى للدفاع الاجراءات اللازمة لتنفيذ السياسة الدفاعية كما حددها مجلس الوزراء، وتبقى مقررات المجلس الأعلى للدفاع سرية.
يوزع المجلس الأعلى للدفاع المهام الدفاعية على الوزارات والأجهزة المعنية ويعطي التوجيهات والتعليمات اللازمة بشأنها ويتابع تنفيذها ويقر خطة العديد والتجهيز الموضوعة لهذه المهام.
وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى أن المديرية العامة لأمن الدولة، خاضعة لسلطة المجلس الأعلى للدفاع وتابعة لرئيسه ونائب رئيسه، وتتمتع بالمهام التالية: جمع المعلومات المتعلقة بأمن الدولة، مكافحة التجسس، مراقبة الأجانب بما يخص أمن الدولة، إجراء التحقيقات الأولية في الأفعال التي تمس أمن الدولة، ووضع التقارير الدورية الخاصة بالوضع الأمني والسياسي لإطلاع المجلس الأعلى للدفاع على حقائق الوضع، ووضع المقترحات المناسبة لمجابهة الأخطار الداخلية والخارجية، وإطلاع رئيس المجلس الأعلى للدفاع ونائبه بصورة دائمة على الوضعين الأمني والسياسي.
إذا، يمكن لرئيس الجمهورية، من خلال رئاسة المجلس الأعلى للدفاع والإشراف المباشر على المديرية العامة لأمن الدولة، ممارسة صلاحيات واسعة النطاق تُعزز من قدرته على إدارة شؤون البلاد بفعالية. يشكل المجلس والمديرية، أدوات استراتيجية تتيح للرئيس متابعة الأوضاع الأمنية والسياسية عن كثب، والتأثير على القرارات الحيوية بما يضمن تنفيذ الرؤية الوطنية التي طرحها في خطاب القسم.
هذا الدور يجعل رئيس الجمهورية في موقع محوري يذكّر بالتجربة الشهابية، حيث تمكّن الرئيس فؤاد شهاب من توظيف أجهزة الدولة لإرساء سيادة القانون وتعزيز مؤسسات الدولة. إن التركيز على دور الجيش والقوى الأمنية كمحور أساسي للأمن والسيادة يعكس رؤية شبيهة ببناء الدولة الشهابية، مع فارق أن التحديات الراهنة تتطلب نهجًا أكثر توازنًا بين السلطات المختلفة واحترامًا أكبر للشفافية.
ولابد من التشديد في هذا الإطار، على ضرورة تحقيق توازن بين الأمن والحريات، من خلال الالتزام بالشفافية واحترام حقوق الإنسان، لضمان سيادة القانون وتعزيز الثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة. وذلك، لتحاشي السلبيات التي طبعت التجربة الشهابية، فرغم نجاحها في بناء دولة المؤسسات، إلا أنها واجهت انتقادات بسبب سيطرة أمنية أثرت سلبًا على الثقة بين المواطن والدولة.
إن تولي الرئيس هذا الدور يمكن أن يُترجم إلى خطوات عملية لبناء دولة أكثر استقرارًا وفاعلية، شرط أن يتم الالتزام بمبادئ الشفافية، وسيادة القانون، واحترام المؤسسات، وهو ما يضمن نجاح الرؤية الوطنية بعيدًا عن أي نزاعات سياسية أو مذهبية.