عيسى مخلوف

أين الشعر الذي التفتت إليه جائزة نوبل؟

10 تشرين الأول 2020

02 : 00

قارئة، للفنان فيرمير، 1657

مَنحُ جائزة نوبل للآداب هذا العام للشاعرة الأميركية لويز غلوك، هو التفاتة إلى الشعر في مرحلة لم يكن فيه هذا الصنف الأدبي مهمّشاً ومعزولاً كما الحال الآن، فهل تكفي جائزة نوبل لردّ الاعتبار إليه؟

مع انتصار عالم التسويق والإعلان والشهرة الفوريّة، لم يخمد صوت الشعر وحده فحسب، بل أيضاً أصوات المسرح والفلسفة والفكر والعلوم الإنسانيّة بصورة عامّة. حتّى الشعر نفسه، أو ما تبقّى منه، صار هو أيضاً مرهوناً بمساومات وحسابات، وصارت بعض المهرجانات الشعرية أشبه بأعمال خيريّة. ولبسَ الشعر، عند بعض الشعراء، لبوس العصر، فبتنا نسمع من يدعو إلى المشاركة في "ماراتون الشعر"، من دون أن نعرف ما علاقة الشعر وطبيعته المتأنّية، الشديدة الإصغاء والتأمُّل، بالماراتون المرادف للركض والسباق والفوز.

يخرج الشعر الحَقّ من مخبئه. لا أحد يعرفه وهو لا يعرف أحداً. سُئل سارتر يوماً لمن يكتب الفلسفة، فأجاب قائلاً إنه يكتبها، في المقام الأوّل، لأساتذة الفلسفة وطلاّبها، لكن الفلسفة اليوم ينحسر تعليمها في الجامعات، كما يتراجع تعليم الآداب، وهذا ما ينعكس بدوره على مستوى التلقّي وعلى القراءة النوعيّة ضمن مشهد ثقافي يعاني من تراجع ومن انهيارات متلاحقة.

إنّ الاعتبارات الاقتصادية التي تلقي بظلالها على كلّ شيء، بما في ذلك تبنّي هذا النوع الأدبي أو ذاك، تتحكّم أيضاً بمسار التعليم الجامعي والتخصّصات المختلفة، ما يضاعف من تهميش الجماليّات والمعارف الإنسانية على أنواعها، خصوصاً تلك التي لا تتوجّه إلى الجمهور الواسع ولا تضمن المردودية المادية المرجوّة.

ما نشهده في مجال الأدب يطالعنا كذلك في الفنون التشكيليّة. وكما يُعلَن عن الأدب انطلاقاً من قيمته الشرائية وعدد النسخ المُباعة، تُحدَّد أهمّية هذه اللوحة أو تلك نظراً إلى قيمتها في البورصة الفنية. مئة مليون دولار كان سعر الجمجمة المرصّعة بالألماس التي أنجزها الفنّان البريطاني داميان هورست، وخمسون مليون دولار ثمن بالون البلاستيك الأحمر المنفوخ على شكل كلب صغير ويحمل توقيع الفنّان الأميركي جيف كونز. الفنّ الذي يسلّي ويدغدغ العين ويستقطب الاهتمام هو تجسيد لانحطاط المشروع الحداثي، مثلما كان الفنان الفرنسي فرنسوا بوشيه في القرن الثامن عشر تجسيداً لتردّي القيم الكلاسيكية، ومثلما رأينا ما آلت إليه النهضة الإيطالية وأين استقرّت بعض الأشكال والأساليب الفنية التي عُرفت باسم "مانييريسم" (التكلُّف في الفنّ)، ومثلما تحوّلت الرومانسية والكلاسيكية الجديدة في القرن التاسع عشر، في إنكلترا وفي فرنسا على السواء، إلى فنّ أكاديمي صرف. إنّ الوهج الذي عرفه الغرب، وفرنسا بالأخصّ، في الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية، والذي بلغ أوجه في النصف الأول من القرن الماضي، يشهد تراجعاً كبيراً اليوم. تتضاءل الأصوات التي بلوَرها الفكرُ النقديّ وصقلتها النزعة الإنسانية، تلك النزعة التي تعاني في الزمن الراهن من عزلة قلّما شهدتها في تاريخ الفكر. أمّا الشعر الذي تألّق في الغرب في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، خصوصاً في فرنسا، مع عدد كبير من الشعراء الذين تركوا بصماتهم على الشعر العالمي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، بودلير ورامبو ومالارميه وسان جون بيرس، يعيش لحظة انكفاء، طباعةً وتوزيعاً وقراءة. ويكاد يغيب من مكتبات بيع الكتب في المدن والقرى الفرنسية، بينما لا يزال يحتفظ بهامش ما في دول غربيّة أخرى كالسويد وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركيّة.

منطق الربح الذي انقضّ على الموارد الطبيعيّة، بل على البيئة ككلّ، وأفقدها في غضون نصف قرن ما لم تفقده خلال ملايين السنين، فاجتثّ الغابات، واستباح المحيطات والبحار، وسمّم الهواء والماء، وسبّب الاحتباس الحراري وذوبان الجليد القطبيّ، وفتح العالم على أوبئة من نوع جديد، هو نفسه ما يهدّد اليوم بعض ما تميّزت به الحضارات الإنسانيّة عبر العصور، فكراً وآداباً وفنوناً. وهذا "المنطق" لا يعنيه الإبداع كقيمة قائمة بذاتها، بقدر انشغاله بما يمكن تسليعه وتسويقه قبل أيّ اعتبار آخر.

في هذا المناخ السائد، التفتت جائزة نوبل إلى الشعر، وذلك شيء مهمّ، علماً أنّ اهتمامها ينحصر، في الغالب، في المركزيّة الغربيّة. وتحدّثت اللجنة التحكيميّة في تسويغها منح الجائزة عن "صوت شعري يتميّز بجمالية شعريّة متقشّفة وبسيطة تمنح الوجود الفرديّ طابعاً كونياً". وَصفُ شعريّة لويز غلوك بهذه الكلمات ينطبق أيضاً على كلّ شعر يأتي من الأعماق في حواره مع الذات والكون. إنه صوت الشعر الذي يناديه سوفوكليس من وراء أزمنة بعيدة: "تكلّم يا طفل الأمل المذهَّب، يا الصوت الأبدي".


MISS 3