ريتا عازار

متحف ومكتبة وبيت ومسرح

معالم ثقافيّة تحكي قصص الحرب والسِّلم




صارت في الخمسين من عمرها... فهل من يوبيل ذهبي للحرب اللبنانية؟ أم أننا في كلّ عام نذكر ولادتها في الثالث عشر من نيسان، ولا يكون لنا رفيق سوى الرصاص، ينخر الذّاكرة كما نخر أعمارنا وأحلامنا؟ ليس من يوبيل ذهبيّ للحرب، وحدهما ثقافة لبنان وبيروته تستحقان الذهب الغالي وكل ما هو أغلى من الغالي.


بيروت، حلوة لبنان، المدينة التي حملت بين أزقّتها تاريخاً متشابكاً من الجمال والألم، كشجرة السّرو في زمن الفينيقيّين، تبقى رمزاً للحياة رغم ما مرّت به من مآسٍ. بعد خمسين عاماً على اندلاع الحرب اللبنانية، لا تزال معالم ثقافية كثيرة في العاصمة تحمل ندوباً من الماضي، لكنها تخبّئ دائماً روحها المُتّقدة بالثقافة والفنّ والتنوع، لتتجدّد على الدوام كزهرة شقائق النعمان من دم أدونيس، ومعها تعود الحياة بعد كل موت.



في ذكرى نصف قرن على اندلاع حرب 1975، نسترجع أوجاع الماضي صحيح، لكننا نغوص أيضاً في إرث ثقافي ومعالم ظلّت صامدة على طريقتها، نروي حكايات أوجاعها وموتها ثم عودة النبض إليها. من "المتحف الوطني"، إلى "المكتبة الوطنية"، و "مبنى بركات" أو "البيت الأصفر" ("بيت بيروت" حالياً)، وبانتظار ربيع قد يعود يوماً إلى "التياترو الكبير".



"المتحف الوطني": جهد أمير ووزير

لعب كلٌّ من الراحلَين الأمير موريس شهاب والوزير ميشال إدّه، دوراً محورياً في حماية "المتحف الوطني" في بيروت، إذ ساهمت جهود الأول في صونه خلال الحرب، ومساعي الثاني في إعادة إحيائه بعدها.


افتُتح المتحف في العام 1942 بتصميم مستوحى من العمارة المصرية، على أرض قدّمتها "بلدية بيروت"، وبمساحة 6000 متر مربع. أدرك الأمير موريس شهاب، أمين المتحف، أهمية حماية كنوزه، فاستبق المخاطر بوضع خطط لنقل المقتنيات عند الضرورة (1951). جاءت الحرب وكانت "الضرورة"، فغلّف التماثيل والنواويس بصناديق خرسانية وأخفاها عن العيون خلف جدران سميكة فحماها من الدّمار.


بعد الحرب، تولّى الوزير ميشال إده، وكان يومها وزيراً للثقافة والتعليم العالي، مشروع ترميم شامل أعاد للمتحف رونقه، ليعود ويفتح أبوابه في التسعينات من القرن الماضي، مركزاً ثقافيّاً يروي تاريخ لبنان. ثمّ بعد الأضرار التي لحقت به جرّاء انفجار "مرفأ بيروت" في العام 2020، جرت عمليات إصلاح سريعة بفضل دعم مؤسسة "Aliph" وبالتعاون مع خبراء "متحف اللوفر". هذه الجهود سمحت بإعادة افتتاح المتحف بسرعة، كما أُطلقت جولة افتراضية عبر الإنترنت لتمكين الجمهور من استكشاف المجموعات الأثرية.


بين حماية شهاب وحرصه الشديد على الآثار، وشغف القيّمين عليه حالياً، يظلّ "المتحف الوطنيّ" شاهداً على هوية لبنان وإرثه العريق.



"المكتبة الوطنية": عودة الروح

تأسست "المكتبة الوطنيّة" في العام 1921، بتبرُّع من الفيكونت فيليب دي طرازي. وسرعان ما أصبحت مركزاً للمعرفة، حيث انتقلت عام 1937 إلى مبنى "مجلس النّواب" وواصلت توسّعها.


مع اندلاع الحرب عام 1975، نُهبت وخُرّبت، ما أدى إلى إغلاقها في العام 1979. نُقل ما تبقّى من مقتنياتها إلى "مؤسسة المحفوظات الوطنيّة"، بينما تعرّضت أخرى للتلف بسبب سوء التخزين.


بعد الحرب، انطلقت محاولات إحيائها. لكنّ انطلاقتها الحقيقية كانت في العام 2005 بمنحة قَطَرية دعمت مشروع الترميم، الذي اكتمل العام 2017. وفي 6 كانون الأول 2018، أُعيد افتتاحها في مقرّها الجديد بمنطقة الصنائع، بمحتوى يضم 300,000 كتاب ووثيقة.


تُعدّ المكتبة الوطنية، اليوم، رمزاً للصمود الثقافي، حيث تحوّلت من مجرد أرشيف للكتب إلى مركز حيويّ للبحث واستعادة الذاكرة الوطنية، تشهد أن المعرفة تبقى أقوى من الأزمات.



"بيت بيروت": ذاكرة مدينة

بين شوارع محلّة السوديكو، يقف "البيت الأصفر"، كأحد أبرز معالم الذاكرة الحيّة في بيروت. بُني عام 1924 وأضحى معلماً تاريخيّاً يعكس تطوّر المدينة وتقلّباتها. كان مبنى سكنياً صمّمه المهندس يوسف أفتيموس لعائلة نقولا وفيكتوريا بركات، ثم أُضيفت إليه طوابق جديدة في العام 1932. يتميّز بأسلوب معماري فريد يجمع بين الطرازَين الشرقي والغربي، مع شرفات وأعمدة وقناطر مزخرفة جعلته تحفة معمارية في زمنه.


خلال الحرب اللبنانية شهد تحوّلات كثيرة، فتحوّل من منزل عائلي إلى نقطة عسكرية، حين أصبح موقعاً استراتيجياً على خطوط التماس. بعد انتهاء الحرب، كان مهدّداً بالهدم، إلا أنّ جهود المهندسة منى الحلّاق أنقذته، فأُعيد تأهيله ليصبح متحفاً يوثّق ذاكرة بيروت. افتُتح رسمياً في العام 2016 ليكون مساحة تفاعلية تضيء على التحوّلات العمرانية والاجتماعية للمدينة منذ مطلع القرن العشرين.


المبنى- المتحف بقي بعد ترميمه شاهداً على حقبة الحرب، حيث حوفظ على آثار الرصاص على الجدران المدمَّرة كشاهد حيّ على الصراع. وهو يستضيف فعاليات ثقافية، معارض فنية، وورش عمل تهدف إلى تعزيز الحوار بين الأجيال، مجسّداً بذلك روح بيروت التي تتذكر ماضيها لتصنع مستقبلها.



"التياترو الكبير": مجد ودمار

في قلب بيروت، يقف "التياترو الكبير" شاهداً على تحوّلات المدينة، من أوج ازدهارها الفني منذ افتتاحه في العام 1929، إلى دمار الحرب، ومن ثمّ إلى محاولات النهوض.

كان المسرح تحفة معمارية جمعت بين الطرازَين الكلاسيكي والشرقي. استضاف عروض الأوبرا والباليه والمسرحيات الرفيعة، ما جعل منه مركزاً ثقافياً بارزاً حتى منتصف القرن العشرين. لكن مع اندلاع الحرب، أُغلق المبنى وتحوّل إلى نقطة تمركز للمتقاتلين، فتعرّض للدمار والنهب، ليصبح رمزاً لمأساة بيروت.


وعلى الرغم من انطلاق مشاريع إعادة إعمار وسط بيروت في التسعينات، ظلّ "التياترو الكبير" مهجوراً، تتعثر خطط إحيائه وسط التعقيدات الإدارية والمالية. أُعيد ترميم واجهته الخارجية، لكنّ داخله لا يزال متداعياً ومصيره معلّقاً، رغم محاولات استرجاعه كمسرح وطني.


خلال "ثورة 17 تشرين" (2019)، دخل متظاهرون المبنى، رافعين العلم اللبناني فوق قبّته، في إشارة رمزية إلى أنه ملك للشعب. وعلى الرغم من ذلك، بقي المسرح مسوّراً بالألواح الحديدية، بانتظار مصير لم يُحسم بعد.


"التياترو الكبير" ليس مجرّد مبنى، إنه ذاكرة بيروت المسرحيّة ومرآة تاريخها العاصف. وبينما يقف اليوم بين الماضي والحاضر، فإنّ إحياءه لن يكون مجرّد ترميم للحجر، بل استعادة لروح مدينة لطالما كانت منارةً للثقافة والفن.


تتقاطع هذه المعالم الأربعة في كونها ليست مجرّد أبنية حجرية، بل هي أرواحٌ تسكن المدينة وتحكي قصصها. من "المكتبة الوطنيّة" التي صمدت في وجه النسيان، إلى "التياترو الكبير" الذي لا يزال ينتظر دوره في العودة إلى المجد، ومن "المتحف الوطني" الذي استعاد بريقه رغم الجراح، إلى "البيت الأصفر" أو متحف "بيت بيروت" الذي يُعيد رسم الذاكرة الجماعية للبنانيين، تبقى بيروت مدينة لا تُمحى معالمها، بل تتجدد مع كل جيل يحمل شغف الحفاظ على إرثها.