كان صباحاً ربيعياً، ولا بدّ أنّ العصافير كانت تزقزق. وكان في لبنان شركتان خاصّتان للبث التلفزيوني، وإذاعة واحدة رسميّة، ووكالة للأنباء، وعدد من الصحف. ذلك قبل زمن الفَيض الإخباري الذي نعيشه اليوم ويُغرقنا بما ينبغي أن نعرفه وما لا ينبغي أن نعلمه على السواء. فمن قال يومها للبنانيّين: «بلّشت الحرب»؟
عشيّة 13 نيسان 1975 كان الإعلام التلفزيوني في لبنان مقتصراً على شركتين خاصّتين، تدير الأولى «شركة التلفزيون اللبنانية» (1959)، والثانية «تلفزيون لبنان والمشرق» (1962). أما الإعلام الإذاعي المحلّي فكانت تتولّاه «الإذاعة اللبنانيّة» (1938). فيما كانت «وكالة الأنباء الوطنيّة» (1962) المزوّد الرئيسي بالأخبار للتلفزيون والإذاعة والصحف اليوميّة العديدة الصادرة في لبنان.
أحداث أمنيّة مؤسفة
في كتابه «أسعد الله مساءكم» (دار «هاشيت أنطوان» - 2015) يورد الإعلامي زافين قيومجيان أنّ النشرة الإخبارية المشتركة بين شركتَي التلفزيون، تعاملت مع الأحداث المستجدة بحذر، وبقيت تحت سقف البيانات الرسمية الصادرة عن المراجع الأمنية.
ويتابع قيومجيان أنّ حادثة «بوسطة عين الرمانة» وردت خبراً أمنياً سريعاً من جملتين في نشرة الأخبار. أما حوادث القتل على الهوية والمجازر وانقسام بيروت في ما بعد، فكانت ترد تحت تسمية «أحداث أمنية مؤسفة».
ويورد قيومجيان في هذا الإطار أنّ الإعلامي عادل مالك لم يجد ما يقوله لمشاهديه خلال واحدة من ليالي القصف العنيف بداية الحرب، سوى أنّ «الوضع كما تسمعون وكما تشاهدون».
انتظار دون جدوى
مالك، في كتابه «حرب السنتين وبعد...» («دار سائر المشرق» - 2016) كتب عن ذلك اليوم المشؤوم، إذ كان في مبنى «تلفزيون لبنان والمشرق» في منطقة الحازميّة. وكان مالك منكبّاً منذ الصباح على إعداد نشرة الأخبار، و»كنّا في تلك الفترة نعتمد على الأخبار العالمية التي تصل إلينا عبر وكالات الأنباء المحدودة، في حين أنّ الأخبار المحليّة كانت تأتينا، ولو بشكل مختصر، من «الوكالة الوطنية للأنباء».
مع انتصاف النهار رنّ جرس الهاتف في مكتبي، وكان المتحدث أحد الأصدقاء وقد بدا في صوته قلق واضح وهو يسأل: «هل تعلم ما الذي حدث في عين الرمانة؟»، أجبت بالنفي. وعندها قال لي: «هناك حادث كبير في محلّة عين الرمانة حيث يسمع إطلاق النيران بكثافة...».
بعد انتهاء المكالمة بينه وبين الصديق، عمد الإعلامي عادل مالك «إلى إجراء الاتصالات والاستفسار عمّا حدث... وانتظرت ورود أي معلومة من مصدر رسمي عما جرى، من جانب «الوكالة الوطنية للأنباء» أو غيرها، ولكن دون جدوى... وحتى ذلك الحين، لم يصدر عن أيّ جهاز رسمي معلومة أو خبر يوضح أو يكشف ما الذي جرى في عين الرمانة...».
وكان موعد نشرة الأخبار التلفزيونية يقترب، «وليس لديّ سوى بعض الأخبار المحلّية العاديّة والكثير من الأخبار العالمية... ووقعت في الإحراج المهني: كيف يمكن الظهور على الشاشة الصغيرة وتقديم نشرة الأخبار من دون الإشارة إلى ما حدث؟ وأذكر أنني بينما كنت في طريقي إلى الستوديو، وردني اتصال من «الوكالة الوطنية للأنباء»، وجرى إبلاغي بخبر مقتضب جدّاً، تحدّث عن وقوع بعض الحوادث في منطقة عين الرمانة، وأنّ السلطات المختصة باشرت التحقيق لكشف ملابسات ما حدث».
نشرة... نشرتان
وإذا كان شعار الرئيس صائب سلام «لبنان واحد لا لبنانان»، بلسم الجرح الوطنيّ بعد «ثورة 1958»، فإن «حرب 1975» صيّرت الإعلام في لبنان «إعلامين لا إعلاماً واحداً».
ففي آذار 1976 انعكس الانقسام بين اللبنانيّين على نشرة الأخبار المشتركة، فصارت نشرتَين، واحدة من «شركة التلفزيون اللبنانية» في تلّة الخيّاط ناطقة باسم «الحركة الوطنيّة» وأحزابها، وأخرى من «تلفزيون لبنان والمشرق» في الحازميّة، ممثّلة الشرعيّة بشخص رئيس الجمهورية سليمان فرنجيّة.
بين الصنائع وعمشيت
الإعلام المسموع، لم تكن حاله أفضل من زميله المرئي. مع اندلاع الأحداث، تراجع حضور «الإذاعة اللبنانية» الرسميّة، ومقرّها في محلّة الصنائع ببيروت، وعانت من تراجع الإمكانات وعدم بلوغ بثّها سائر المناطق اللبنانيّة، وكان تعاملها مع الأخبار ونقل الأحداث بحكم الأمر الواقع والأطراف المسيطرة.
لكن مساء 11 آذار 1976، ومع إذاعة «قائد منطقة بيروت العسكريّة» في الجيش اللبناني العميد عزيز الأحدب، «البلاغ رقم واحد»، عبر التلفزيون، إيذاناً بالانقلاب على الشرعيّة، دخلت الإذاعة بدورها مدار «الانقلاب التلفزيوني» وتداعياته.
في هذا الإطار، ورد في الكتاب الذي أعدّه الإعلامي مارسيل الترس «إذاعة عمشيت من الإرسال الى الإقفال» (منشورات مؤسسة سابا زريق» - 2024) أنّ حوالى الساعة 2:30 فجر يوم 12 آذار 1976 سُمعت، من خلال بث «الإذاعة اللبنانية» التي كان قد دخلها ليلاً الأحدب ورجاله وكرّر إذاعة «البلاغ رقم واحد»، رسالة رئيس الجمهورية سليمان فرنجية إلى اللبنانيّين. فوقف مدير عام وزارة الإعلام رامز خازن، الذي كان غادر مبنى الإذاعة قبل ساعات ولجأ إلى مقرّ جريدة «النهار» القريب في شارع الحمرا، وقال للحضور: «لقد وصل الشباب إلى محطة إرسال عمشيت وتولّوا البثّ من هناك».
الذي حصل أنّ خازن كان ينسّق منذ مطلع عام 1976 لإقامة ربط إذاعي بين محطة إرسال عمشيت في جبيل ومحطة إرسال أيطو في زغرتا، تحسُّباً لحصول اي طارئ.
ومع بلوغ خبر الانقلاب إلى المعنّيين، نُفّذت الخطّة المتّفق عليها، فقطع التقنيّون في محطّة إرسال الإذاعة في عمشيت البثّ الآتي من الإذاعة في الصنائع، والتحق موظفون من كافة دوائر وزارة الإعلام و «الإذاعة اللبنانية» يقطنون في الشطر الشرقي من بيروت، بمنشآت الإذاعة في عمشيت، وأمّنوا بما تيسّر من مواد بثّاً موازياً لبثّ ستوديوهات بيروت. وبذلك صارت الإذاعة اثنتين، واحدة في الصنائع غرب بيروت، وثانية تبثّ من عمشيت، شمالي العاصمة.
بادرة دعم
استمرّ هذا الواقع حتى قرّر فريق عمل «إذاعة لبنان من عمشيت»، وقف البث الموازي وإعادة ربط محطّة عمشيت مع «إذاعة لبنان من بيروت»، ذلك بعدما تسلّم الياس سركيس مهام الرئاسة الأولى، كبادرة دعم منهم للعهد الرئاسي الجديد. في تلك الأثناء كانت الإذاعات الحزبيّة والمناطقيّة قد بدأت باحتلال الأثير، واستمرّت في التوالد مع كلّ مرحلة وجولة من جولات الحرب ومراحلها، إلى أن كان «قانون تنظيم البث المرئي والمسموع» عام 1994.
إذاً، ما كاد يبزع فجر 14 نيسان 1975 حتى كان معظم اللبنانيين قد باتوا على بيّنة أنّ بعد 13 نيسان ليس كما قبله. ولعلّ أبرز مؤشّر أنّ البلاد قد سلكت سكّة «اللي يروح وما يرجعش»، «مانشيتّا» جريدَتي «النهار» و «السفير». إذ عنونت الأولى:
«حادث عين الرّمانة: 30 قتيلاً وعدد من الجرحى
عرفات يستنجد بالملوك والرؤساء العرب والجميّل يتّهم إسرائيل بافتعال الحادث»
وعنونت الثانية:
«لبنان يدين الكتائب ويطالب بحلّها
27 قتيلاً في مذبحة عين الرّمانة».
...واللبنانيّ مِنَ العنوانِ يَفهمُ.