أمجد اسكندر

كلّنا هنا وهناك




نحن في السنة الخمسين على بداية «حروب بيننا… وعلينا»، ولكن النهاية لم تكتب بعد. والشرارة التي انطلقت في نيسان 1975 لا تزال مشتعلة.


50 سنة واللبناني يحمل صخرة سيزيف في رحلة لا تنتهي من صعود وهبوط على جبل الأحزان والآمال. أنحن في سِلم مُستقطع بحروب، أم في حروبٍ تتخللها فترات سِلم؟ في الحالين كُتب علينا أن نبني حياتنا على صهوة الأحداث بحُلوِها والمُر.


وحروبنا لم تتوقف حتى يُقال «فلتُذكر ولا تُستعاد». عام 1990 انتهت مرحلة وما تلاها أخطر مما سبقها. والأخطر هذا الهروب من الحقائق إلى التلذّذ بلحس المبرد. لا ليس ما حصل «حروب الآخرين على أرضنا»، فجزيرة كوبا الصغيرة تبعد أميالاً قليلة عن فلوريدا وفشلت كل محاولات الإدارة الأميركية في قلب نظام كاسترو الشيوعي لعدم وجود طرف داخلي كوبي يدعمها وتدعمه.

أما الكلام على «تنقية الذاكرة والأيادي الملطخة بالدم والمراجعة والمصارحة والمصالحة»، فكلام حتى لا أقول أكثر. الذاكرة في لبنان دائمة الالتهاب، وكل المتاح تنظيم اختلافاتنا، وتأكيد تنوّعنا، وإشهار حقائقنا الدفينة بدلاً من النفاق وتلفيق الشعارات الرنانة. يجب أن نبقى مختلفين إلا على الحرية والمحبة والاعتراف بالآخر مهما قَسَونا على بعضنا.


لا معنى للبنان إذا كان لطائفة مهيمنة أو لحزب حاكم. مضيعة للوقت السعي إلى تأليف كتاب التاريخ الموحّد الذي لن يوحّد أحداً. ويجب أن نقتنع بأن الدولة نتاج المُكونات اللبنانية، ومن العبث اختلاق دولة لا تنبثق من حراك هذه المكونات. وحتى الاندماجيون، في أحسن الأحوال هم مُكونٌ يُضاف إلى تلك المكونات التاريخية، وعليهم أن يكفوا عن التوهّم بأنهم يمثلون الأكثرية المسحوقة أو الساحقة. قِلةٌ بينهم صادقة والكَثرةُ تَختَلِقُ أدوارَها.


أنت لبناني فلا تقارن نفسك بأي آخر. وجِدتَ هنا لتُصارع الحياة لا لتعيشها مثل مواطن في دولة اسكندنافية. هي رسالةٌ لمن يريد أن يُضفي معنىً على قَدَرِهِ، ولعنةٌ لمن سيُعاند، وكلما عانَدَ ازدادَتْ وطأةُ الصخرة الملتصقة به ولا يملك خيار رميها عن كتفيه. مرَّتْ أيامٌ وَدَدْتُ أَنْ يُعزَفَ نشيد السلام وفي أيام أُخَر نَفَختُ في نفير المعارك. ولو تُستعاد المواعيد أعود. دافعتُ في مواجهة مُهاجمين، ولو كنت منهم كنت المُهاجم ضد المُدافعين. وبِقَدْرِ ما أنبذ التطرف لم أفهم فكرة الاعتدال إلا تذاكياً غير موفق. في أول الحرب كنت في أول الوعي السياسي، والفطرة شدتني لأكون الشاهد لا المُشاهد أو شاهد الزور. لذا أنا من جيل هو... من زمن مضى... ومن الحاضر... ومن زمن بين بين.


كُثُرٌ من أبناء جيلي هم ثلاثة أشخاص في آن. نتبادل اللوم ونتعارك ونتصالح وترتسم على شفاهنا ابتسامات الرضى، ثم نشرب الكؤوس ونرتمي من ثقل الذاكرة على مقاعد حجرية غير مريحة. في 13 نيسان من ذلك الربيع مرت «بوسطة» وحملت معها الشعب اللبناني بأسره. داخل هذه «البوسطة» نرفع رايات الانتصارات والهزائم، ونعيش ونموت. «البوسطة» برغم كل الاهتراء والأعطال لا تزال تسير، وعسى أن تجد عزيزي القارئ متسعاً من الوقت لتفتح الجريدة، جريدة «نداء الوطن»، وتقرأ كيف أنت، مهما كان عمرك ومهما كانت اقتناعاتك، كنت موجوداً هناك... في العديد من الأمكنة والكثير من الأسماء.