في وقت تتراجع فيه هيمنة إيران على بعض الساحات، يظهر محور جديد خلف الستار تتقدّمه تركيا وقطر. تحدّ جديد يواجه الولايات المتحدة، لا يُقاس فقط في الميدان، بل يُرسم أيضاً على خرائط الغاز والممرّات الجيوسياسية، حيث لم يعد الصراع طائفياً فحسب، بل مصيرياً على مستوى النفوذ العالمي.
تسعى الولايات المتحدة، بالتنسيق مع إسرائيل، إلى كبح صعود هذا المحور المطروح كبديل عن النفوذ الإيراني، الذي لطالما هيمن على ساحات لبنان وسوريا والعراق، وصولاً إلى اليمن. ولا يأتي هذا التوجّه من فراغ، بل يندرج ضمن استراتيجية أشمل لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، بما يضمن التفوّق الإسرائيلي ويمنع نشوء توازن قوى جديد لا يخدم المصالح الغربية.
تهديد مباشر للمصالح الغربية
في المقابل، تتحرّك تركيا وقطر على خط مواز، في محاولة لتشكيل محور جديد عبر دعم الحكومة السورية التي شُكّلت من مقرّبين من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. وقد أسند الشرع إلى «هيئة تحرير الشام» الوزارات السيادية، مثل الدفاع والخارجية والداخلية والطاقة. كذلك، عيّن شقيقه ماهر الشرع في منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وهو أحد المناصب الرفيعة في هيكلية الدولة.
وتوظّف تركيا موقعها الاستراتيجي لدعم الحكومة السورية الجديدة عسكرياً، وتفتح الباب أمام الشركات التركية للاستثمار في مشاريع اقتصادية وإعادة الإعمار، بما في ذلك مشاريع بنى تحتية، بينها مرافئ لنقل الطاقة ومشاريع التنقيب عنها.
وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الداخلية التي تعصف بأنقرة، يمضي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدماً في مشروعه لتزعّم الدور السني في المنطقة، مستغلّاً حال الانكفاء النسبي لإيران في بعض الساحات.
ممرّات الغاز والأجندة الأميركية
في قلب هذا المشروع، تسعى تركيا إلى تحويل نفسها إلى مركز إقليمي لتوريد الغاز إلى أوروبا. ويأتي ذلك ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى، تُرجمت باتفاق ألماني مع قطر لتزويدها بالغاز السائل، على أن يُنقل عبر الأراضي السورية مروراً بتركيا وصولاً إلى أوروبا. هذا المشروع لم يمرّ مرور الكرام، إذ رأت فيه الولايات المتحدة تهديداً مباشراً لمشروع «الممرّ الهندي - الخليجي - الإسرائيلي»، الذي يربط الهند بالخليج ثمّ بإسرائيل، وصولاً إلى أوروبا.
في هذا السياق، صرّحت مصادر دبلوماسية أميركية لـ «نداء الوطن» بأن واشنطن وتل أبيب تدركان أن السماح بوجود هذا المحور الجديد قد يغيّر المعادلات الجيوسياسية ويفتح الباب أمام تحالفات إقليمية تتعارض مع الأجندة الأميركية في الشرق الأوسط. لذلك، فإن تعطيل هذا المشروع ليس مجرّد تفصيل، بل هو هدف استراتيجي تتمسّك فيه إسرائيل وتتفق عليه واشنطن، كجزء من خطّة شاملة للحفاظ على الوضع القائم وضمان التفوّق النوعي لإسرائيل في مواجهة أي مشروع مواز.
وأشارت المصادر إلى أن إسرائيل لم تتردّد في استخدام أدواتها العسكرية، حيث بدأت بتكثيف عملياتها داخل الأراضي السورية، واستهدفت مواقع وقواعد كان الجيش التركي يسعى إلى التمركز فيها. الرسالة كانت واضحة: لا مكان لتركيا في مستقبل سوريا، ولا سماح بملء الفراغ الإيراني المحتمل. كلّ تقدّم تركي يُقابله ردع إسرائيلي مباشر، وكلّ محاولة لبناء محور جديد يُقابلها كبح متواصل.
«السلام الإبراهيمي» و»الناتو» الإقليمي
كشف مصدر دبلوماسي أميركي لـ «نداء الوطن» أن اتفاقات «السلام الإبراهيمي»، التي بدأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعداد لها لتوقيعها بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، وُلدت من رحم هذه الاستراتيجية. فهذه الاتفاقات لم تكن مجرّد تطبيع، بل شكّلت ركيزة أساسية لمشروع أوسع: إقامة تحالف إقليمي بقيادة واشنطن، هو عبارة عن «ناتو شرق أوسطي»، لمواجهة إيران عسكرياً، أو أي مشروع منافس آخر، وتحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة من خلال إنشاء ممرّات برّية جديدة تمرّ عبر إسرائيل نحو أوروبا.
وبحسب المصادر الدبلوماسية، تُعدّ هذه الخطوات جزءاً من الإرث السياسي لترامب، ولا تزال حيّة وفاعلة في صلب السياسة الخارجية الأميركية، التي تهدف إلى تطويق المحور الإيراني ومنع أي بديل منافس من الظهور، حتى وإن كان مدعوماً من تركيا وقطر.
تحوّل جيوسياسي أم صراع دائم؟
بينما تواصل الولايات المتحدة وإسرائيل رسم ملامح نظام إقليمي جديد، يبقى السؤال الأهمّ: هل ستكون المنطقة على موعد مع ردود عسكرية ودبلوماسية من واشنطن وتل أبيب تجاه إيران وميليشياتها في المنطقة؟ ومن جهة أخرى، هل سيُقطع الطريق على حلف استراتيجي بين تركيا وسوريا الجديدة، ويُجهض إنشاء أي محور يحظى بحماية وتأييد عسكريَّيْن من الجيش التركي، الذي قد يتحدّى إسرائيل على حدودها بحراً وبرّاً وجوّاً مع مرور الوقت؟
المؤكد أن الشرق الأوسط في هذه اللحظة التاريخية، يقف على حافة تحوّلات جذرية، حيث يتداخل الصراع على النفوذ مع حروب الغاز والممرّات الاستراتيجية.
والأهمّ من ذلك، أن هذه التحوّلات تحدث في وقت حسّاس يسعى فيه اللاعبون الدوليون إلى حفظ مصالحهم، ما يُسهم في إعادة رسم المعادلات الجيوسياسية العالمية. كلّ ذلك يحدث في وقت يتسارع فيه سباق إسرائيل للسيطرة على مفاتيح المستقبل.