جاد حداد

الناجحون مهنياً أكثر ميلاً إلى الوحدة!

14 تشرين الأول 2020

02 : 00

"القلق يطغى على أفكار صاحب التاج"! إنها أشهر مقولة في مسرحية Henry IV, Part 2 (هنري الرابع، الجزء الثاني) لويليام شكسبير على لسان الملك الإنكليزي في القرن الخامس عشر. هو متعب ومريض وحزين ويعيش معاناته وحده. يعبّر هذا التعليق عن فكرة مستمرة مفادها أن القادة يميلون إلى الشعور بالعزلة والوحدة. تدعم الأبحاث المعاصرة هذا الادعاء. لا يعني ذلك أن القادة يعترفون بوحدتهم أكثر من الآخرين، لكنّ مشاعر العزلة والوحدة في مكان العمل تشكّل مصدراً أساسياً للتعاسة في أعلى المناصب.

الصداقة في مكان العمل عامل أساسي للشعور بالسعادة. وفق دراسة أجرتها الشركة الاستشارية للموارد البشرية Future Workplace والشركة المتخصصة بالراحة في مكان العمل Virgin Pulse، يقول أكثر من 90% من أرباب العمل والمدراء إنهم تعرفوا الى أصدقاء لهم في العمل، ويعترف 70% منهم بأن الصداقة في بيئة العمل هي أهم عامل لعيش حياة مهنية سعيدة، ويبدي 58% منهم استعدادهم لرفض منصبٍ براتب أعلى إذا لم ينجحوا في التوافق مع زملائهم في العمل. وبحسب تحليل لبيانات الملكية في معهد Gallup هذا الشهر، يكون الموظف الذي يعمل مع "صديقه المقرّب" أكثر ميلاً بمرتين إلى الاستمتاع في العمل مقارنةً بالآخرين، ويشعر حوالى 50% من الموظفين في هذه الحالة براحة فائقة في حياتهم الاجتماعية.

لكن غالباً ما يفوّت أصحاب المناصب العليا الصداقات التي تنشأ مع زملاء العمل وقد يعيشون معاناة كبرى نتيجةً لذلك. تكشف الدراسات أن الوحدة ترتبط بظاهرة الإجهاد التام لدى القادة. لذا يجب أن يتعلم الناجحون مهنياً وكل من يتقدمون في مسيرتهم المهنية لبلوغ أعلى مراتب القيادة كيفية التحكم بهذه المشكلة.

لا تنجم مشاعر الوحدة في أعلى المناصب عن عزلة جسدية (من يمضي وقته في الاجتماعات أكثر من الرؤساء التنفيذيين؟)، بل تشتق من العجز عن بناء روابط إنسانية عميقة في العمل نتيجة المنصب القيادي. بعبارة أخرى، يكون الناجح في عمله "وحيداً وسط الحشود".

يدرك القائد بدرجة معينة أن جزءاً كبيراً من موظفيه لا يستمتع برفقته، بغض النظر عن تصرفاته. غالباً ما تُصعّب طبيعة العلاقة بين رب العمل والموظف إقامة تواصل بنّاء بين الطرفين على مستوى إنساني بحت. وفق دراسة من العام 1972، يظن رب العمل عموماً أن مرؤوسيه يخسرون هامشاً من إرادتهم الحرّة على مستوى التعامل اللطيف مع رؤسائهم (ما يعني أن غياب الود مع رب العمل قد يُعرّضهم للخطر)، وهذا ما يزيد غرابة الوضع ويؤجج مشاعر الانزعاج. تذكر أبحاث لاحقة أن الموظفين يميلون إلى تجنب الصداقات مع رب العمل لأن هذه الروابـط قد تعكس انحيازاً ضد الآخرين. وغالباً ما يتعامل الناس مع رؤسائهم في العمل مثلما كانوا يعاملون الشخصيات التي لها سلطة عليهم في مراحل سابقة من حياتهم، على غرار الأهل أو الأساتذة.

يميل أصحاب السلطة أيضاً إلى عزل أنفسهم. زعم عالما الاجتماع ديفيد ريزمان وناثان غليزر والشاعر رويل ديني في كتابهم The Lonely Crowd (الحشد الوحيد) في العام 1950 أن القادة يشعرون بالوحدة لأن نجاحهم يفرض عليهم استعمال أسلوب التلاعب وإقناع الآخرين. لهذا السبب، يتعاملون مع الموظفين الأدنى مستوى منهم وكأنهم سلع ويعاملهم الموظفون بالمثل. يذكر بحث لاحق أن القادة يُبعدون أنفسهم عمداً عن الموظفين كي يتمكنوا من تقييم أدائهم بموضوعية.

ربما تثبت المعطيات المتاحة حتى الآن أن أصحاب المناصب الرفيعة لا يصابون بالوحدة أكثر من غيرهم خارج إطار العمل بشكل عام، لكن يشعر عدد كبير من الناجحين بالعزلة والوحدة في مختلف جوانب حياتهم.

يتعلق جزء من السبب بزيادة ســاعات العمل. وفق مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو"، يعمل المدير التنفيذي طوال 62.5 ساعة أسبوعياً مقابل 44 ساعة للموظف العادي. يفوق دوام البعض هذه العتبة أيضاً، فلا يتسنى له أن يطوّر صداقات خارج إطار العمل.

يظن القائد الذي يعمل لساعات طويلة وحده أن ذلك النمط من العمل المكثف إلزامي لتحقيق النجاح الذي يصبو إليه. لكنّ هذا السلوك ليس حتمياً، بل يواجــه الناجحون مهنياً في حالات كثيرة أعراض مرضٍ شائع: الإدمان على العمل. ابتكر الطبيب النفسي واين أوتس هذا المصطلح بعدما طلب ابنه الأصغر موعداً منه لمقابلته في عيادته لأن وقت الأب كان ضيقاً جداً. عرّف أوتس مفهوم الإدمان على العمل في العام 1971 باعتباره "ميلاً قهرياً أو حاجة خارجة عن السيطرة إلى العمل المتواصل". قد يعتبر البعض هذه الحالة مرادفة للإدمان على النجاح.

منذ أن طرح أوتس هذا المفهوم، زاد الاهتمام بظاهرة الإدمان على العمل في أوساط علماء النفس باعتبارها مشكلة حقيقية ومتصاعدة في الحياة المعاصرة. بشكل عام، يمكن تشخيص الحالة عبر طرح أسئلة عن ميل الفرد إلى العمل بما يفوق المهام المطلوبة منه تزامناً مع إهمال جوانب أخرى من الحياة. تكشف تجارب عدة أن المدمنين على العمل يتبنّون أيضاً سلوكاً تقليدياً ينمّ عن الإدمان، مثل التسلل إلى العمل خلسةً والشعور بالتهديد أو الغضب حين يخبرهم أقرب الناس إليهم بضرورة تخفيف وتيرة عملهم.

لماذا يتصرف الناس بهذه الطريقة؟ تظن الطبيبة النفسية باربرا كيلينغر أن المدمنين على العمل يكونون مثاليين بطبيعتهم ويحملون خوفاً غير صحي من الفشل. من خلال تحقيق الإنجازات المتلاحقة، تشعر هذه الفئة من الناس براحة موقتة من ذلك الخوف، لكنها تعود إلى العمل دوماً لأن فكرة التأخّر أو المماطلة تنتج شعوراً بالهلع في نفوسهم.

على غرار كل من تسيطر عليه سلوكيات الإدمان، ينغمس المدمنون على العمل في مشاعر الخوف والهوس ولا تبقى في حياتهم مساحة كافية للأصدقاء أو أفراد العائلة أو حتى الصلاة. في هذا السياق، يقول عالِم الأعصاب الاجتماعي الراحل جون كاسيوبو من جامعة شيكاغو، وهو رائد في الدراسات المرتبطة بمشاعر الوحدة: "تعكس الوحدة ما تشعر به تجاه علاقاتك". قد يتواجد المدمن على العمل وسط العائلة مثلاً أو في مكان عمل مزدحم، ومع ذلك يشعر بوحدة فائقة إلا خلال دوام العمل المريع والمريح في آن.

لا يمكن تجنب العوامل التي تُرسّخ مشاعر الوحدة لدى القادة أحياناً. لا مفر من أن يعزل رب العمل نفسه عن موظفيه بدرجة معينة لأن هذه الصفة جزء من شخصيته. لكن يستطيع القادة أن يتخذوا بعض الخطوات لتخفيف شعورهم بالوحدة إذا كانوا يشغلون أعلى المناصب، وقد تكون هذه الاستراتيجيات نفسها مفيدة لكل من يحاول الارتقاء في عمله أيضاً. (عملياً، من الأفضل إحداث التعديلات اللازمة في المواقف تجاه العمل في مرحلة مبكرة، قبل أن يفوت الأوان على تطبيق أي مقاربة).

لمعالجة مشكلة الإدمان على العمل، يجب أن يتحلى الفرد بأعلى درجات الصدق. يكذب المدمن على نفسه طوال الوقت ويقتنع بأن العمل خلال 14 ساعة عنصر أساسي لتحقيق النجاح، مع أن مستوى إنتاجيته يتراجع بدرجة كبيرة بحلول تلك المرحلة، فيكتفي حينها بكبح مشاعر الملل أو الضغوط أو الألم المرافق للحياة العادية لساعة إضافية. إنها مشكلة معقدة ولا يمكن حلّها من دون الاعتراف بوجودها في المقام الأول.

لمواجهة هذه الحقيقة، لا بد من تحديد العوامل التي يحاول المدمن تجنّبها من خلال العمل لساعات إضافية. إذا كانت المشكلة تتعلق بعلاقاته الشائبة نتيجة سنوات من الإهمال مثلاً، قد يزيد الوضع سوءاً على الأرجح عبر الانغماس في الإدمان بطريقة غير مسبوقة. لتجاوز هذا الإدمان، يجب أن يعيد الفرد تقييم وقته ويستعمله لتجديد صداقاته وحياته العائلية.

كل من يشعر بالوحدة في مكان العمل يجب أن يعرف أن القائد السعيد لا يترك صداقاته للصدفة. أسّس بن فرانكلين مثلاً ما سمّاه "نادي جونتو" في العام 1727، وهو عبارة عن مجموعة غير رسمية من الرجال وكان معظمهم يتحمّلون مسؤوليات مشابهة له في فيلادلفيا. ذلك النادي منح فرانكلين منفذاً حيث يستطيع تطوير صداقات حقيقية والتكلم بكل حرية وطلب النصائح وابتكار الأفكار. كما أنه اكتشف في الوقت نفسه أحد أسرار النجاح من دون الشعور بالوحدة: بناء مجتمع خاص خارج إطار العمل. يقوم البعض بذلك عبر ممارسة الغولف أو دراسة الدين. لكن لا أهمية للنشاط الذي تمارسه أو شكل الصداقة الناشئة، بل يتمحور أهم عامل حول إنشاء بيئة سليمة تستطيع أن تمضي فيها الوقت مع الآخرين حيث يتعامل معك الناس كشخصٍ بحد ذاته من دون أن يتأثروا بمنصبك.

قد يستفيد الجميع من خلق فرص لإقامة علاقات اجتماعية خارج مكتب العمل، لكن غالباً ما يحتاج القادة إلى هذه الصداقات المتعمدة بشكل خاص. في هذه الأيام، لا داعي لتكون التجمعات المشتركة محصورة جغرافياً. قد تشمل النوادي المعاصرة أعضاءً في أماكن بعيدة وقارات مختلفة ولا تفصل بين الناس إلا نقرة واحدة على تطبيقات الهواتف الذكية. باختصار قد تسود أجواء من الوحدة التامة في أعلى المناصب فعلاً، لكنّ الوحدة ليست شرطاً ضرورياً لتحقيق النجاح، بل إنها مجرّد كلفة يجب أن يتكبدها الناس ويسيطروا عليها.

يمكن هزم الوحدة والتحكم بها ومعالجتها وتلقي المكافأة المنشودة عبر البحث عن الحب وتقديمه للآخرين. في هذا الإطار، كتب رالف والدو إيمرسون في مقالته المرحة بعنوان "الصداقة": "استيقظتُ هذا الصباح وأنا أشعر بامتنان عميق لأصدقائي، القدامى منهم والجدد". من خلال اكتساب المعارف وبذل الجهود اللازمة، يستطيع كل شخص منا أن يطوّر تلك المشاعر السعيدة.


MISS 3