تتفاوت القراءات في الأسباب التي أدّت منذ خمسة عقود إلى اندلاع الحرب على الأراضي اللبنانية، ولكن يبقى المشترك بين معظمها هو عنوان "غياب الدولة"، فلا شكّ أنّه متى غاب النّاظم الواحد عن أي أرض أو ساحة أو مساحة مشتركة بين عدّة مكوّنات وفئات، استحكمت الفوضى وفرضت شروطها وأدبيّاتها.
وإلى جانب غياب الدولة عن لعب دورها أكان في إلغاء حاجة الداخل من تحوّله مضطراً إلى أمن بديهي عن الذات والوجود، وضبط الداخل عن انجراره خلف مشاريع الغلبة والالغاء، أو صدّ الخارج عن اقحامه مشاريعه التوسعية والانقلابية والعدوانية على الدولة والدستور والكيان والهوية، إلى جانب ذلك، يلعب العنصر الداخلي دوراً سلبياً في تحويل الأرض إلى مركزٍ قابلٍ للحروب والمعارك والاقتتال متى ربط نفسه ومصيره بدولة أو ولاية أو مشروع لا يمتّ للداخل بأيّ صلة.
وتوازياً مع ذلك، لا شكّ أنّ التنوّع الذي يستحكم بالمجتمع اللبناني، لعب ويلعب عاملاً مساعداً في تأجيج الصراعات، متى كان تنوّعاً غير مستوفي شروط العدالة، أي متى قاد إلى ترسيخ غلبة مكوّن على آخر، أو متى أتاح لفئة ما يحرمه لأخرى، أو متى أنتج سقوفاً متفاوتة عند تطبيق القانون والحقوق والواجبات.
من هنا، إنّ تحويل الحرب التي تَقاتل فيها الخارج مع الداخل والداخل مع الداخل، إلى ذكرى غير قابلة للحياة، يجب، وتبعاً لِما يحكم الواقع الحالي في لبنان، إلغاء ثلاثية نيسان بشكل تام ونهائي، دون تدوير زوايا أو التفاف على الحقائق، وذلك عبر إنجاز خطوات دولتية مؤسساتية دستورية.
تبدأ الخطوات هذه، عبر استعادة الدولة دورها السيادي على كامل الأرض اللبنانية، من خلال نزع سلاح كل المجموعات المسلّحة خارج إطار الشرعية، وضمناً سلاح "حزب الله" وكامل تركيبته العسكرية والأمنية، من ثمّ ما على "الحزب" وضمن احترام الكيان اللبناني، سوى فكّ ارتباطه العسكري والوجودي بشكل كامل مع النظام الإيراني الحالي واستطرادا الحرس الثوري الإيراني، وبالتالي العودة إلى لبنان بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، مع ما يعنيه ذلك من تبدية المصلحة اللبنانية على أي مصلحة أخرى، والتوقّف عن إقحام لبنان بمعارك وحروب عبثية لأجل أجندة طهران.
ويبقى ضمن "ثلاثية نيسان" السوداء، ضرورة إعادة الاعتبار إلى ركائز العدالة بين المكوّنات اللبنانية، عبر ترسيخ أطر متوازنة ضمن التركيبة اللبنانية، حيث تشعر كلّ مجموعة بالأمن والأمان، فلا تُنتهك بثقافتها وأدبياتها ومقدّساتها وطرق عيشها واقتصادها وأعمالها ومستقبل أفرادها، ولا يُعطّل مسار الانماء والتطوير والمؤسسات والحياة عند كل مفرق واستحقاق وكلّما أراد هذا وذاك فرض مصالحه ومشروعه ونُظُم عيشه.