رواية حول سرقة الآثار خلال الحرب

فصل من جديد الكاتب مازن حيدر: "صيف أرملة صاروفيم"

تصدر قريباً عن "دار نوفل - هاشيت أنطوان"، رواية "صيف أرملة صاروفيم" للكاتب اللبناني مازن حيدر (1979). فيها يعود الكاتب إلى الحرب الأهليّة، وتحديداً "حرب التحرير" (1989)، ولكن بمقاربة مختلفة ذات بعد توعوي. في "صيف أرملة صاروفيم"، التي تقع في 184 صفحة، يتناول حيدر، وهو مهندس متخصّص في شؤون التراث، مسألة سرقة الآثار خلال الحرب، وقد أشاعت الصحافة حينها نقل الآثار إلى قبرص ضمن معاهدة دولية... فهل نُقلت أم سُرقت؟ وتُحيي الرواية ثقافة حماية الآثار بسَرد مشوّق، أبطاله فتية يفكّون ألغازاً محفورة على شواهد القبور تقود إلى كنوز ودفائن.

هنا مقتطف حصريّ من الرواية تنشره "نداء الوطن".


حين دخل ملحم عليها كانت أسامة قد قلبت الصفحة، وألقتها على المكتب. استدارت فلمحته لاهثاً مُتعرّقاً، مُمسكاً بصينيّة القهوة، مُفتعلاً ابتسامة المُتأسّف عن خطأٍ ما. راح يحدّق بها، بل كان يغرس عينيه في عينيها غرساً. سألها عمّا شدّها من أعمالٍ أدبيّة قرأتها هذا الصيف، وحدّثها عن روائيّين لم تسمع بهم بعد، وعن دَور أحياء بيروت ومناطقها في تشكيل هويّة الأدب الحديث. سيُزوّدها ببعض هذه الروايات، قال، قبل أن ينتقل إلى مواضيع قلّما تعنيها، كقصّة تزيين حجر البيوت الصخري بالكحلة السوداء، أو كخبر تعديل مواعيد ريّ الأراضي، شاغل أهل القرية.


لم يرفع عينَيه عنها خلال جلسة هذا الصباح، بل كان يحيطها بنظرة الواثق المسرور بمشاركتها أخباره البعيدة عن دوّامة المعارك الدائرة. عكس ما كان عليه أمس! عكس جلستهما في المطبخ بعد الغداء حين راح يصف لها بالتفاصيل قصّة آثار مار قرياقوس، مديراً ظهره مُواظباً على غسل الأطباق. هكذا أجابها البارحة عن تساؤلات باغتتها مع حديث نزار. وهذا ما أخبرها به عن تفاصيل خطّة نقل مجموعة المتحف الصغير: "أهل القرية لا يعون أهميّة هذه الأرض... هذا معبد الإلهة ديانا، إلهة الصيد والحرب، الإلهة ديانا يا جماعة! دير مار قرياقوس حلّ مكانه منذ خمسة عشر قرناً! متى يعون أنّ هذه الكنوز لهم وللأجيال القادمة من بعدهم...".


تطاير رذاذ المياه حتى بلغها وهي تمسح الطاولة. كلّما انفعل خالها ازدادت حركة يديه عصبيّةً تحت خط الماء السائل فوق حوض المجلى. ومن دون أن يلتفت إلى ناحيتها أطرق قائلاً: "لو تضافر أهل القرية لوقفوا سدّاً منيعاً أمام الغزوات من هُنا ومن هُناك، ولما كان المتحف لينتهي على هذا النحو. لأُغلق "المتحف الوطني" في بيروت فقط ولهُرّبَت المجموعاتُ فيه للمحافظة عليها كما حصل، لكونه على خطّ التماس بين المنطقتَين. أمّا نحن هُنا فبمنأى عن النيران والمعارك. غير أنّ قرار الإقفال ونقل المجموعة إلى مكانٍ آمن لم يصدُر عن عبث... لا، ليس عن عبثٍ صدر القرار. كانت أيّامها أيّام معارك "المئة يوم" صيف عام 1978، قبل أحد عشر عاماً بالتمام... اتّخذ الأستاذ صادق حُسامي قراره بتروّ وبحكمة. اتّهمه بعض أهل القرية من الخبثاء بأنّه يقضي عمداً على متحف خصّتنا به وزارة السياحة. في ظلّ غياب أيّ سياسةٍ فعليّة لحماية الآثار ووسط تفكّك هيكل الدولة، ماذا تريدينه أن يصنع؟ تذكرين الأستاذ صادق من دون شكّ، مسؤول متاحف المناطق في مُديريّة الآثار!".


تابع فرك الأوعية بالصابون، ضاغطاً بأصابعه عليها يلمّعها، مُستثمراً في نشاطه هذا للغوص في الذكريات. تابع قائلاً: "اقترح صادق نقل المجموعة المعروضة في متحفنا الصغير إلى الساحل، إلى قلعة جبيل تحديداً. جمع أهل عين سْرار بمن فيهم المختار وخوري القرية يومها أبونا جناديوس، بالإضافة إلى أفرادٍ من عائلات مُختلفة، حقّقوا نفوذاً حزبيّاً وشعبيّاً في الأعوام الأولى للحرب الأهليّة. أبلغهم أنّه متخوّفٌ من الأخطار المتربّصة بالمعروضات من نقودٍ وكؤوسٍ وتماثيل وغيرها، إذا ما توسّعت جبهات القتال مع "الجيش السوري" وصولاً إلى جرودنا المُشرفة على سهل البقاع. كانت حجّةً لم ترتضِ بها الأكثريّة، إلّا عندما بارك المشروع مدير "المتحف الوطني" في بيروت الذي قصد عين سْرار شخصيّاً، وتبنّى أمام الملأ هذا القرار الحكيم. بزيارة المدير، اكتسب التدبير معنى آخر عند أهل المنطقة، فلم يعُد القرار حكراً على موظّفٍ مسلمٍ، وإن كان أكثرهم يكنّ للأستاذ صادق كلّ احترام".


أفرج عن ضحكةٍ صفراء، وأوقف تدفّق الماء من دون أن يُعلن نهاية القصّة. انتقل إلى تجفيف ما غسله من صحونٍ آبياً أن يلتفت صوبها، مُسهباً في سرده كمن يعترف بسرّ قديم: "وفي الخامس عشر من شهر آب في يوم عيد السيّدة تمّت عمليّة إجلاء المجموعة، بحضور عناصر القوى العسكريّة الحديثة النفوذ، التي بدأت ترسّخ دورها كسلطةٍ بديلة للقوى النظاميّة الآخذة في الانهيار. حتّى إنّ بعضهم تطوّع لمرافقة الشاحنة التي قادها صاروفيم إلى أن بلغت جبيل. عنصران، أحدهما جبرايل ابن نسيب الشبر".


تنهّد محنياً رأسه ثمّ أكمل مُتلعثماً: "ظلّت المجموعة محفوظةً هناك حتّى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت الغربيّة. عامها أُبرِمت اتّفاقيّةٌ مع متحف مدينة نيقوسيا الأثري في قبرص. اتّفاقيّة أو معاهدة للاحتفاظ بآثارنا هناك مع قسمٍ من مجموعة المتحف الوطني إثر تعاظم خطر الحرب. تحدّث الأستاذ صادق عن هذا التدبير مراراً حتّى في الصحف! أتسمعين؟ حتّى في الصُحُف...".


توقّف عن تجفيف الصحون، مُلقياً بالفوطة على طرف الطاولة مُستعيداً ثقته بالكلام: "ما كاد المتحف يُخلى يا أسامة حتّى تسلّمته قوى الأمر الواقع بكلّ بساطةٍ كمن يتسلّم إرثاً له أحقيّةٌ في ملكه... كان هذا ما خشيناه في السابق، بل كان هذا ما توجّس الأستاذ صادق منه بالفعل. لو لم يُقدم على خطوة الإقفال الجريئة، فكيف كان له أن يحمي مئات القطع في ظروفٍ كهذه؟ من كان سيقف أمام تجّار الآثار عند اقتحام المكان في فصل الشتاء والبرد؟ من؟ فريق الحراسة القديم مثلًا؟ ها! فريق مؤلّف من عريف بمسدّسٍ من عهد الجندرمة ومن أخينا صاروفيم، المعمرجي السابق، حاجب المتحف المسكين. رحمه الله، مرّت سنة على وفاته قبل أسبوعين".


أمس لم تكن أسامة تطمع بالمزيد من المعلومات، بل اعتراها إحساسٌ بأنّ ما استفاض خالها بشرحه لها كان كافياً ليلجمها عن معاودة السؤال والاستيضاح. غير أنّ ما أجّلتْه من استفسارات لم يكُن ثانويّاً بل من صلب الموضوع. روى لها ملحم قصّةً حفظَها عن ظهر قلبٍ عن نقل مجموعة المتحف، قبل أن تستعلم منه عن كنوزٍ ما برحت مدفونةً في عين سْرار. استسلمت لشرحه الطويل فلم تتمكّن من سؤاله عن سبب اغتناء صاروفيم المفاجئ، أو عن صحّة حيازته خريطةً أرشدته إلى ما في جوف الأرض من ذهبٍ أو من أموال.


أمّا اليوم فغير الأمس، فكّرت أسامة. ها هو خالها عازمٌ على تسليط نظره عليها وهو يرتشف القهوة من فنجانه هذا الصباح. كأنّه يأبى أن يكتم سعادةً راحت تطفح من وجهه كالطفل البريء. ولأنّه لم يخطُر في بال أسامة أنّه ليس كلّ ما يُعرف يُقال، بادرته سائلةً:


– صحيح أنّ لصاروفيم خريطةً بالكنوز في الأرض؟


انقبضت ملامحه ثمّ سألها باستياءٍ واضح:


– ما هي هذه الكنوز؟ ومن نقل لك هذه الأخبار؟ أتُصدّقين هذه القصص؟


– لا، ردّت مُحرجةً نادمة على استفسارها.


– الكنوز يا أسامة هي ما بقي لنا من آثار في مار قرياقوس، وهي كذلك مجموعة المتحف التي ستعود لنا متى انتهت هذه الحرب اللعينة.