وائل خير

ذكرى 13 نيسان

الأحداث المفصلية في تواريخ الشعوب تعرف بأسمائها. غير أن نسبتها إلى زمن حدوثها فيه ميزة الاختصار. ذاك دور اصطلاح "13 نيسان" للإشارة إلى انفجار الأوضاع في لبنان وتحوّل ما كان تشنجاً إلى قتال و سفك دماء استمر خمس عشرة سنة أخذ بعدها أبعاداً اقل دموية.


طبيعي أن يتخذ إحياء "13 نيسان" لهذا العام طابعاً خاصاً إذ هي ذكرى نصف قرن لبداية القتال، ثم إنها الأولى بعد تطورات لم تكن في حسبان أحد، بمن فيهم حسن نصرالله، طوت صفحة قاتمة في تاريخ لبنان الحديث.


ثلاث ملاحظات على إحياء الذكرى: اقتصر الاحتفاء بها على المسيحيين وعلى المسؤولين. الرئيس عون أصدر بياناً حول الحدث فيما الرئيس سلام خطب في جمع في ساحة الشهداء، وثالثهما،طبعاً، وسائل الاعلام.


حشد جماهيري ضخم التقى بدعوة من حزب "الكتائب" ليستمع ويستجيب لكلمة الرئيس سامي الجميّل. خطاب، إن لم يكن أفضل أداء للشيخ سامي الجماهيري، يبقى في طليعتها محتوى، وأفعلها في إثارة مشاعر الحضور بالنبرة والصياغة إذ تراه مستوفياً متطلبات الخطابات الجماهيرية الفعّالة.


لكن محتوى الخطاب أمر آخر.


أطروحة الشيخ سامي تقوم على وطن اسمه لبنان أراد الفلسطيني ثم السوري به سوءاً"، فهب اللبنانيون يقاومون العدوان ببسالة وبطولة أنقذت وطنهم.


شاء الشيخ سامي أن يثير حماس الجماهير فسرد المعارك التي خاضها المقاتلون دفاعاً عن لبنان في وجه الفلسطينيين والسوريين فعمّ التصفيق والهتاف القاعة. حقق الخطيب هدفه لكنه فضح هشاشة أطروحة وحدة لبنان ذلك أن الدفاع لم يكن على امتداد حدود الوطن كالعريضة، أو عندقت، شمالاً، ولا في الخيام أو راشيا أو بريتال جنوباً وشرقاً، بل كانت شكا وعين الرمانة وزحلة وصنين. لم يسقط شهداؤنا دفاعاً عن لبنان بل حموا مواقع وجود الشعب المسيحي فيه.


كلمتا الرئيس عون وسلام كانتا أقل دراماتيكية تميزتا بالبلاغة اللغوية وغلب عليهما الوعظ. تفادى الرئيسان البحث في جذور المأساة اللبنانية واكتفيا بالحض على الالتزام بالأخلاق والمحبة والتعاون إذ يهمهما خروج لبنان من أزماته وتحقيق نموه وازدهاره.


يحتسب للرئيس سلام أنه أول من اعتبر ساحة الشهداء ساحة كل شهيد مات في سبيل لبنان وإن اختلفت الدوافع وربما تناقضت. هو موقف يلقى  ترحيب الكثير من اللبنانيين. ربما كان لنا في إسبانيا قدوة. فالحرب الأهلية الإسبانية من 1936 حتى 1938 تبوأت الصدارة في عدد ضحايا الحروب الأهلية في القرن العشرين وإن ذهب البعض إلى تفوق الحرب الأهلية الروسية عليها بالمآسي. أقامت الحكومة الإسبانية مقاماً مشتركاً ضم رفات محاربي الحرب الأهلية. الشهادة جمعت من فرّقتهم الأيديولوجيات. أطلقوا على المقام "وادي من سقط في الحرب" فيه كاتدرائية لا تتوقف الصلوات للشهداء فيها، كما يعلو التلة صليب ارتفاعه 150 متراً.


الصحافة أيضاً أبرزت الذكرى. بديهي أن يولي الإعلام اليوبيل الذهبي أهمية يستحقها. لا حصر للمقالات والمقابلات حول الموضوع. معظمها كان وعظياً حثّ على الالتزام بحسن الأخلاق والعزوف عن الكراهية والحقد. لكن بعض المحللين حاول سبر أعماق الذكرى بدلاً من الاكتفاء ببسط تفاصيلها واستعان بالوعظ علّ الوعظ يحول دون تكرارها. أهم ما مرّ بي في هذا السياق مقال لصحافي محل تقديري الكبير. سرد تطور الأحداث السياسية التي سبقت 13 نيسان ذاكراً قصر نظر المسؤولين هذه الأحداث التي تراكمت ونتج عنها الانفجار الكبير. كان لاتفاقية القاهرة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية قسط مهمّ في ذاك السرد، كما أشار الكاتب ببعض تفصيل إلى دور المجلس النيابي في إقرار اتفاقية القاهرة من دون السماح لممثلي الشعب بالاطلاع على تفاصيلها بحجة تناولها مسائل تمس بأمن الوطن. ومما يُشكر الكاتب عليه ذكره انفراد ريمون إده بمعارضة الاتفاقية.


المقال هذا، وإن تعمّق في ثنايا المأساة اللبنانية، لم يبلغ قعرها، أو ربما بلغ القعر لكنه أمسك عن ذكره. جميع هذه التحليلات، على اختلاف استنتاجاتها واقتراحات حلولها، تكتفي ببسط نتائج 13 نيسان ولا تتدارك أسبابها. دخول الفلسطينيين وبعدهم السوريين ثم الإيرانيين بتغطية لبنانية، ليست هي الأسباب، إنها نتائج. نتائج ماذا؟ نتيجة بنية لبنان الكبير. كيان دستوري رفضه ما كاد يبلغ نصف سكانه عامذاك وأصبحوا الغالبية الآن. شعوب ولاؤها ليس للبنان بل لهويات عميقة لدى كل مكوّن لا تتماثل، بل تتضارب، مع تطلعات شعوب المكونات الأخرى. فطالما نفى أو كتم اللبنانيون حقيقة يطبقونها قي إقاماتهم وتجوالهم ومصاهراتهم وقيمهم على أنواعها، لن يكون مصير لبنان إلا تكرار مآسيه أو السيطرة الديموغرافية لفريق وبسط ثقافته لا بل حضارته على سائرنا.


كفانا مسح دماء ولننظر في سبب النزيف.