خلال لقاء بين قادة حركة "فتح" ومسؤول سوري مهم في النصف الأول من الستينات في القرن الماضي، تركز البحث على تنظيم "الكفاح المسلح" الفلسطيني ضد إسرائيل من لبنان. وما رشّح لبنان لهذا الدور الذي تنامى بعد هزيمة 1967 ثم "اتفاق القاهرة" قبل "أيلول الأسود"، هو كونه أضعف الحلقات بين دول الطوق التي لديها جيوش قوية. لماذا؟ لأنه لا دور لمقاومة شعبية إلا في بلدان ديمقراطية ضعيفة على العكس من البلدان السلطوية القوية. ولأن المطلوب كان "تغيير لبنان" لأسباب إقليمية توظّف لمساعدتها أسباباً محلية. ومن هنا كانت بداية العمل المنهجي على مدى عشر سنين لتحضير مسرح الحرب رسمياً يوم 13 نيسان 1975. وما كانت حادثة البوسطة في عين الرمانة التي لا تزال أسرارها العميقة مدفونة تحت مظاهر الدراما التي انشغل بها الجميع، سوى افتتاح للتراجيديا فوق مسرح يتوسع على مدى نصف قرن.
خمسون سنة من حروب بلا نهاية تتخللها مراحل من الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية تفصل بين مرحلة وأخرى من الحروب العسكرية. حروب متعددة الجنسيات والوجوه. لا هي فقط محلية، ولا فقط عربية، ولا فقط إقليمية، ولا فقط دولية، بل خليط من كل ذلك. حروب شهدت اتفاقات قبل الطائف لم تصمد. وتوقف المدفع وجرى التوافق على إصلاحات في النظام بقوة اتفاق الطائف، لكن الانقلاب على الطائف جاء سريعاً بقوة الوصاية السورية التي رافقتها ثم ورثتها الوصاية الإيرانية. وفي كل الأحوال كان التصرف على أساس أن لبنان محكوم بدور "الساحة". إما ساحة مفتوحة لأكثر من قوة، وإما ساحة "مغلقة" على طرف واحد يديره طرف إقليمي تحت عنوان تحرير فلسطين سمي "المقاومة الإسلامية".
وليس من المألوف، أقله عند احتدام الصراعات الكبيرة وصعوبة "الحفاظ على الرأس عند تغيير الدول"، أن يصمد بلد مأزوم داخلياً باستمرار تحت شعارات المظلومية. بلد انقسم جيشه غير مرة، وانقسمت سلطته، وانهارت دولته، وتراكمت فوقه أثقال العامل الفلسطيني، والعامل الإسرائيلي، والعامل السوري، والعامل الإيراني، وعامل الصراعات العربية، وعامل الصراعات الدولية، وعامل الصراعات الإقليمية، لكن نظامه لم يسقط في حين كان ولا يزال المطلوب تغييره. لا بل إن النظام اللبناني المشكو منه، نظام المحاصصة الطائفية، نظام الفساد السياسي والمالي، نظام استقواء الطوائف بقوى خارجية، صار النموذج المكشوف في عدد كبير من البلدان العربية.
غير أن الصمود على أهميته، يحتاج إلى دينامية حركة فاعلة: حركة تقودها المصلحة الوطنية من دون حاجة إلى عصا خارجية، هي اليوم عصا أميركية بعد انكسار العصا السورية ثم النظام نفسه وانكسار العصا الإيرانية بقوة العصا الإسرائيلية-الأميركية. حركة تخرج لبنان نهائياً من الحروب العبثية المدمرة التي كشفت الوقائع عجز سلاح "المقاومة الإسلامية" عن ردع إسرائيل، كما عن حماية لبنان حتى عن حماية أصحابه وقادتهم والبيئة الحاضنة. فلا مهرب من "قطع الروبيكون" كما كان يقال أيام الرومان عن خطوة لا عودة بعدها إلى الوراء. ولبنان الثقافة والحضارة والجامعات والمستشفيات والصحافة والطباعة والإبداع، ليس أرض مرحلة انتهت بل استمرار نحو الأفضل. وكل الحروب التي تعددت فيها الوجوه واللاعبون بدأت وعاشت على لعبة واحدة: "تجنيد" لبنان في حروب أكبر منه تحت عنوان فلسطين. ولا حل إلا بإنهاء السبب.
كان محمد حسنين هيكل يسمي لبنان "الشرفة الجميلة للعالم العربي" ويراه في زياراته له "مرصد الأفكار". فما على من يريد أن يفهم العالم العربي وتياراته وأفكاره سوى القراءة في لبنان. حتى في مراحل "التصحر" ولا سيما أيام الوصاية السورية والإيرانية، فإن الوطن الصغير لم يفقد دوره في رصد الأفكار وتوليد الأفكار ومواجهة الأخطار.
و"الحرب أولها كلام"، كما قال شاعر عربي قديم.