شكّلت وفاة قداسة البابا فرنسيس غداة عيد الفصح في 21 نيسان الجاري 2025 صدمةً طاولت ليس مؤسسات الكنيسة الكاثوليكيّة فقط بل جميع المؤمنين الكاثوليك والمسيحيّين كافة، والمسؤولين في سائر الديانات ولا سيّما الديانة الإسلاميّة.
وبدأت كافة الأوساط الدينيةّ والسياسيّة تعيد قراءة دور هذا البابا الاستثنائي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية وفي تاريخ العالم. لقد مرّت الكنيسة، ككل مؤسسة إنسانيّة، بتجارب وتحدّيات وخيارات فيها من القوّة أحياناً ومن الضعف حيناً. إذ بعدت عن الخطوط العامة والقواعد الأصليّة التي رسمها المسيح لكنيسته. فمال بعضها إلى ما وصف بكنيسة السلطة، كما مالت أحياناً إلى ما وصف بكنيسة المال، وفي توجّه ثالث كانت قاعدة الاهتمام والأهميّة للناحية الإيديولوجية أي للعقيدة أكثر منها للحياة، وقد اشتهر ذلك لدى البابا السابق الألماني راتزنغر الذي استقال من البابوية في خطوة نادرة في تاريخ الكنيسة. مهمة البابا فرنسيس الصعبة كانت في العودة بالكنيسة إلى دورها وقواعدها الأصليّة والأصيلة. لقد عرف عنه ونجح فيه وإن كان نجاحاً جزئياً. ومع البابا فرنسيس كانت العودة إلى كنيسة المسيح!
ولد خورخي ماريو برغوغليو في بيونس أيريس في الأرجنتين عام 1936. إنه من العالم الثالث وعن والدين من ذوي الأصول الإيطالية. نشأ ودرس في المدينة وعانى كما يعاني جميع أهلها من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة. أكمل دروسه وانتسب إلى الرهبانية اليسوعية. وارتقى إلى الأسقفية الجامعة لأساقفة بيونس أيريس إلى حين انتخابه بابا على رأس الكنيسة الكاثوليكيّة في 13 آذار 2013 خلفاً للبابا بنديكتوس السادس عشر.
أطلق على نفسه لقب البابا فرنسيس تأثراً بحياة القديس فرنسيس الأسيزي وكانت هذه المبادرة علامة على توجّهه إلى الناس المعذّبين وأكثر، لأن الأسيزي تخلى عن ثروته لخدمة الفقراء والعمل على البدء بإصلاح في الكنيسة. لقد كان اختيار اللقب علامة على توجّه روحي وفكري جديد في قلب الكنيسة.
3- ما يعنيه اختيار لقب فرنسيس هو أيضاً الاهتمام بالطبيعة وأهميّة دورها في رسم حياة الإنسان. تلك الحياة التي كانت وظلت محور تفكير وممارسة البابا فرنسيس طوال حياته، ولأنه كتب عنها قصائد بعنوان «أنشودة الشمس»، و«أنشودة المخلوقات».
4- يقتحم البابا فرنسيس عالم الفقراء والمعذّبين وذوي الحاجات والمظلومين والمهمّشين ويدعو إلى فتح صفحة جديدة في الكنيسة لتتعاطى مع هذه الحالات جميعاً، والسعي لإصلاحها كأولويّة حتى ولو كانت أولويّةً على حساب العمل العقائدي، لأن الإنسان ينبغي أن يعيش أولاً ليفكر ثانياً. ولذا على الكنيسة أن تذهب هي إلى الفقراء ولا تنتظر أن يأتوا هم إليها، فالراعي هو الذي يذهب إلى القطيع وليس العكس!
5- واحد من الأبعاد المهمّة التي طبعت حياة البابا فرنسيس ونشاطه وتعليمه، وشكّلت علامة فارقة في تاريخ روما وهي البعد الأخوي بين أبناء الإنسانيّة جميعاً وأبناء الديانات جميعاً، فنحن في رأي البابا فرنسيس جميعنا أخوة.
فتاريخ البشرية ينبغي أن يكون ويبقى تاريخ لقاء لا تاريخ حروب. وعلى الإنسان، كل إنسان أن يعمل لا على بناء الجدران بل على بناء الجسور بين الشعوب والأمم. وأن تكون إرادة الإنسان فوق الاستحالات المفروضة ولأن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت.
6 – من أهم مبادرات البابا فرنسيس إقامة حوار مع العالم الاسلامي. مع العالم السنّي في «وثيقة حول الأخوّة الانسانيّة» مع شيخ الأزهر أحمد الطيّب، ومع العالم الشيعي في زيارته غير العادية للمرجعية الشيعية الإمام السيستاني في العراق، وقد جعل الرسالة الوثيقة «باسم الفقراء والبؤساء واعتبر مساعد المحرومين والمهمَّشين»، و«باسم الأيتام والأرامل والمهجّرين والنازحين من ديارهم وأوطانهم وكل ضحايا الحروب والاضطهاد والظلم». وكانت له مواقف من حرب غزة. كما كان لبنان دائماً في قلبه وعلى لسانه وهو يطرح قضايا الأوطان المعذّبة.
في الخلاصة، لقد جعلنا عنوان هذه المداخلة العودة إلى كنيسة المسيح مع البابا فرنسيس في محاولة لاسترجاع الجوهر الحقيقي لكنيسة المسيح، إذ هي كنيسة قائمة على يد ابن الإنسان من أجل كل أبناء البشر وخاصة للمعذّبين والمظلومين، وليس الذين تغريهم المناصب والأموال على حساب قيَم المحبة والعطاء والأخوّة.
... في حياته كما في مماته كان البابا فرنسيس ويبقى صورة مشرقة حيَّة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.