منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989، ظنّ اللبنانيون أنهم وضعوا الحرب الأهلية خلفهم ودخلوا مرحلة جديدة من السلام. غير أن اتفاق الطائف، نتيجة تغيّرات في الموازين الإقليمية، أصبح غطاءً لسيطرة النظام السوري المطلقة على القرار اللبناني، تحت مظلة قانونية وسياسية أتاحتها بنود الاتفاق والرعاية الدولية. بقيت القوات السورية في لبنان بحجة "مساعدة" الدولة اللبنانية على إعادة بسط سلطتها، إلّا أن هذا الوجود تطوّر إلى تنكيل وتهجير واعتقال، ثم إلى احتلال طويل الأمد حكم لبنان فعلياً حتى انسحاب الجيش السوري عام 2005.
لم تبدأ الهيمنة السورية مع اتفاق الطائف، بل سبقتها سنوات من التدخل العسكري والسياسي المباشر منذ عام 1976. ففي ظلّ الفوضى التي خلّفتها الحرب في لبنان، تدخّلت القوات السورية بدايةً تحت راية "قوات الردع العربية"، لكنها ما لبثت أن فرضت وجودها بالقوة، مسيطرة على مراكز القرار السياسي والعسكري.
منذ ذلك الحين، تحكّمت دمشق في الحياة اللبنانية عبر تنصيب رؤساء موالين لها، وإخضاع المؤسسات الأمنية، وزرع جهاز مخابرات مترامي الأطراف، أشرف عليه قادة مثل غازي كنعان ورستم غزالي.
نصّ اتفاق الطائف على إعادة انتشار القوات السورية إلى منطقة البقاع خلال سنتين، تمهيداً لانسحاب نهائي. لكنّ النظام السوري استغلّ ثغرة الربط بين انسحابه وبين إزالة الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، ليبرّر بقاءه لعقد ونصف.
في هذه الفترة، كان تعيين الرؤساء، وتشكيل الحكومات، وتوزيع المقاعد النيابية تخضع لموافقة السوريين. تحوّلت السيادة اللبنانية إلى مجرّد شعار، فيما كانت القرارات تصدر فعلياً من عنجر، مقرّ الاستخبارات السورية في لبنان.
اقتصادياً، استغلّت سوريا الأسواق اللبنانية عبر التهريب والصفقات المشبوهة، وأغرقت السوق بمنتجاتها الزراعية والصناعية. أما الجيش اللبناني، فجرى تهميشه لصالح تعزيز سطوة "حزب اللّه" والميليشيات المتحالفة مع دمشق.
في 20 أيلول 2000، أطلق المطارنة الموارنة بقيادة البطريرك نصرالله بطرس صفير نداءً تاريخياً طالبوا فيه بإنهاء الاحتلال السوري وإعادة السيادة الوطنية. هذا النداء، الذي صيغ بلغة صريحة غير مسبوقة، شكّل نقطة تحوّل مركزية. تاريخ كلّ بلد يمرّ بلحظة تحوّل مفصلية تغيّر مساره، وقد شكّل نداء المطارنة الموارنة عام 2000 هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ لبنان الحديث. ففي وقت كان الاحتلال السوري يفرض قبضة أمنية خانقة، جاءت صرخة المطارنة لتقلب الموازين، ولتكون بداية مسار استقلالي جديد.
أشار النداء بوضوح إلى أن بقاء الجيش السوري في لبنان لم يعد مبرراً، خصوصاً بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب في أيار 2000. كما طرح أسئلة صريحة حول السيادة المهدورة، والفساد الانتخابي، والانهيار الاقتصادي الذي كانت دمشق مسؤولة عنه بصورة مباشرة.
ومع ازدياد التحرّكات الشعبية والسياسية، بدأ الضغط الدولي يتصاعد تدريجياً، لا سيّما مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 (الذي دعا إلى انسحاب القوات الأجنبية وحلّ الميليشيات المسلّحة) في أيلول 2004.
تميّز النداء بجرأته الفريدة في كسر الصمت الذي خيّم على الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان. تحدّث بوضوح غير مسبوق عن هيمنة النظام السوري على مفاصل الدولة، وتحدّى الخطوط الحمر المفروضة على الحرّيات العامة. لم يكتفِ بتشخيص الواقع، بل فتح الباب أمام نقاش علني واسع حول الاحتلال والسيادة، ملهماً اللبنانيين على اختلاف طوائفهم للتمسّك بحقّهم بوطن حرّ ومستقلّ.
كما شكّل النداء رافعة أساسية لتوحيد قوى المعارضة الوطنية، وأسهم في تعزيز الضغط الدولي على النظام السوري. وأدّى دوراً محورياً في تكريس الكنيسة المارونية كفاعل وطني تاريخي، وجعل من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير رمزاً لاستقلال لبنان الثاني.
ثم جاءت الشرارة الكبرى باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 شباط 2005، في عملية اتُهمت بها أوساط قريبة من النظام السوري. أثار الاغتيال موجة عارمة من الغضب الشعبي، فجّرت "ثورة الأرز"، حيث انضمّ مئات الآلاف إلى القوى اللبنانية والطلابية التي لم تتوانَ عن مواجهة النظام السوري في كل مناسبة، مطالبين بالاستقلال الحقيقي.
تحت ضغط الشارع اللبناني والتهديد بالعقوبات الدولية، اضطرّت دمشق إلى سحب قواتها في نيسان 2005، منهية بذلك احتلالاً دام نحو ثلاثين عاماً. هكذا طويت صفحة الاحتلال السوري للبنان، لكن آثار تلك المرحلة المظلمة بقيت حاضرة، ترسم تحدّيات مستمرة أمام قيام دولة سيّدة حرة مستقلة، قوامها الحقيقة والنضال المستمرّ من أجل الحرية والسيادة.