مرة جديدة، ترفض السلطة المركزية في دمشق مواجهة الحقائق الجغرافية والسياسية التي فرضتها سنوات النزيف الداخلي. ففي بيان رسمي صدر الأحد، سارعت الرئاسة السورية إلى التنديد بتصريحات قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حول الفدرالية، معتبرةً أن الطروحات الكردية تهدد وحدة البلاد وتتناقض مع مضمون الاتفاق الموقع مع القيادة الكردية.
البيان جاء ليعيد إنتاج المعزوفة التقليدية ذاتها: رفض أي مشروع "تقسيمي"، وتحذير من إقامة كيانات منفصلة، ورفع شعار "الوطن الواحد"، وكأن العقود الماضية من الحرب والدمار لم تُثبت أن المركزية الجامدة لم تعد تصلح لعالم اليوم. ولعل في إصرار دمشق على رفض أي حديث عن الفدرالية ما يعكس أعمق مخاوف الأنظمة التي ترى في أي لامركزية انتقاصاً من سلطتها المطلقة، لا خطوة نحو عقد اجتماعي أكثر توازناً وعدلاً.
الاتفاق الذي وقّعه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع مع مظلوم عبدي في 11 آذار/مارس، كان يفترض أن يشكل بارقة أمل: دمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية ضمن بنية الدولة السورية. غير أن الرئاسة سارعت إلى التشديد أن هذا الدمج لا يعني قبولاً بأي صيغة حكم ذاتي أو فدرالي، بل يقتصر فقط على إعادة ترميم صورة الدولة الواحدة المتصدعة.
في المقابل، يؤكد عبدي، القائد الكردي، أن هدفهم ليس التقسيم، بل البحث عن “دستور لا مركزي يضم جميع المكونات”، دستور يتعامل مع الواقع السوري كما هو لا كما تحلم به السلطة. حديث عبدي ليس دعوة إلى التقسيم، بل إلى الاعتراف بأن وحدة الدول لا تُبنى بالقوة بل بالعدالة، ولا تُصان عبر الإلغاء بل بالشراكة الحقيقية.
وهنا، لا يمكن لأي لبناني متابع إلا أن يلحظ أوجه الشبه العميقة بين التجربة السورية اليوم والمأزق اللبناني المزمن. فكما في سوريا، يتمسك النظام اللبناني الرسمي بشعارات الوحدة الشكلية، فيما تتآكل مقومات العيش المشترك الحقيقي. وكما في سوريا، يُنظر إلى الفدرالية ككلمة محظورة، كأنها مرادف للانفصال لا للتنظيم.
لكن الفدرالية، في سوريا كما في لبنان، ليست ترفاً نظرياً ولا مشروع تقسيم. هي ببساطة محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين المكونات السياسية والاجتماعية بطريقة أكثر واقعية وعدلاً. هي إطار للعيش المشترك، لا أداة للانفصال. والبديل عنها ليس الوحدة بل الفوضى الدائمة.
لو كانت دمشق تدرك فعلاً دروس العقد الماضي، لكانت رأت في الفدرالية فرصة لإنقاذ ما تبقى من الدولة، لا تهديداً لها. وكذلك الأمر في بيروت: الاستمرار في إدارة التعددية اللبنانية بأدوات مركزية عتيقة لا يقود إلا إلى مزيد من الانهيار والتفكك البطيء.
الاعتراف بالفدرالية اليوم — سواء في سوريا أو في لبنان — ليس استسلاماً، بل نضجاً سياسياً. إنه إقرار بأن الدول التي وُلدت من رحم معادلات دولية قديمة لم تعد قادرة على الاستمرار دون إعادة تعريف نفسها على أسس جديدة: أسس تضمن لكل مكون حقوقه، وتحمي وحدة الدولة عبر توزيع عادل للسلطة، لا عبر فرضها بالقوة.
في دمشق كما في بيروت، الفدرالية لم تعد مشروعاً مؤجلاً: إنها شرط وجودي للبقاء.