د. جوسلين البستاني

الإسناد الاستراتيجي للمسؤولية: كيف يُتقن "حزب الله" توزيع اللوم؟

حان الوقت لأن ننظر إلى الواقع كما هو، لا كما نتمنّى أن يكون. ومن أبرز العوائق التي تحول دون رؤية الواقع بوضوح، أننا نُحلّل وندرك المعلومات ونعالجها من خلال مصفاة التجربة الشخصية، ونفترض أن الآخر يُفكّر كما نفكّر نحن، وهذا ليس بالضرورة صحيحاً. فعندما يقول الأمين العام لـ "حزب الله" إن "الطريق الوحيد لمساهمتنا في تطبيق القرار 1701 بعد تنفيذ الاتفاق، هو الحوار"، لا بُدّ أن نتوقّف أمام التناقضات الصارخة التي يتضمّنها هذا الكلام ونتذكّر أن قادة "حزب الله" يعملون ضمن إطار نظري مختلف.


من المؤكد أن الأيديولوجيا وتفرّعاتها الطوباوية، شأنها شأن التفكير الجماعي، تؤدي دوراً أساسياً في استمرار تعنّت "حزب الله" ورفضه الانخراط في الدولة. وإلى جانب ذلك، يُمارِس قادة "حزب الله" الخداع الاستراتيجي الذي أصبح تقليداً راسخاً ضمن أدوات فن الحكم. فهو يُستخدم للتلاعب بتصوّرات الخصوم بهدف ردعهم أو دفعهم إلى اتخاذ (أو تجنّب اتخاذ) إجراءات معيّنة، ويُعدّ "حزب الله" من أبرز الجهات التي برعت في هذا الفن. فقد خدّر شعار "المقاومة" اللبنانيين على مدى أربعة عقود، إلى جانب عمليات التأثير السرّي وأنشطة أخرى، بما في ذلك الاغتيالات، وكلّها مُصمّمة لاستنباط ردود فعل سياسية تخدم مصالح "حزب الله".


لكن من يمارس الخداع الاستراتيجي، كـ "حزب الله"، لا يتوانى عن تحويل اللوم لتجنّب الُمساءلة، عِبر ما يُعرف بـ "الإسناد الاستراتيجي للمسؤولية". وغالباً ما تظهر هذه الآلية في سياقات الأزمات أو الفشل العسكري، كوسيلة للتهرّب من المسؤولية عن نتائج كارثية، كما في حالة حرب الإسناد في غزّة، بهدف الحفاظ على شرعية الوجود وتقليص التداعيات السياسية.


ومع ذلك، غالباً ما يترافق تجنّب تحمّل المسؤولية مع التأكيد على تحقيق إنجازات، حتى وإن كانت وهمية. ويُصاحب هذا السلوك رفض المخاطرة بكل ما يرتبط بأشكال التفويض، مثل التنازل عن الإمرة لصالح الجيش اللبناني. لذلك، وفي سياق ما يُعرف بـ "الإسناد الاستراتيجي للمسؤولية"، سيكون من الصعب تحديد مستقبل "حزب الله" العسكري. ففي ما يتعلّق بقضية تسليم السلاح إلى الدولة، نلاحظ أن "الحزب" يطرح شروطاً يعلم مسبقاً أنها مستحيلة التحقّق، لكنه يربط علناً أي تقدّم في العملية التفاوضية بتحقيقها. وقد وُصف هذا النهج بما يُعرف بـ "الحبّة المسمومة"، في إشارة إلى إدراج شرط في المفاوضات مع إدراك مُسبق بأنه سيُرفض من الطرف الآخر، بينما يتيح في الوقت نفسه إمكانية للإنكار المعقول. فعلى سبيل المثال، يشترط الأمين العام لـ "حزب الله"، "استثمار قوة المقاومة وسلاحها ضمن استراتيجية دفاعية تُحقّق التحرير والحماية".


هناك أيضاً ما يُعرف بـ "الاقتراح الفاشل من البداية" (Non-starter)، وهو مُصطلح غير رسمي لكنه شائع في المفاوضات. يُشير إلى اقتراح مرفوض سلفاً لأنه غير واقعي أو غير قابل للتطبيق سياسياً، كما في التصريح القاطع: "لن نسمح لأحد أن ينزع سلاح المقاومة". ويُضاف إلى ذلك التفاوض في "ظل سوء النيّة"، وهو يُشير إلى أن المُتحدث لا يسعى بصدق إلى الوصول إلى حلّ، بل يستخدم التفاوض كأداة سياسية بهدف تحميل الطرف الآخر مسؤولية الفشل. مثال على ذلك: "نحن جاهزون للحوار، لكن ليس تحت ضغط الاحتلال وعدوانه"، مع تجاهل ضمني للسؤال الجوهري: من تسبّب بوجود الاحتلال وساهم في استمراره؟ كذلك، يُستخدم ما يُعرف بـ "المطلب المُتطرّف"، وهو موقف غير قابل للتنازل يُدرك صاحبه استحالته، كما في العبارة: "اكملوا أولاً الإعمار وتعالوا ناقشونا بعد ذلك في الاستراتيجية الدفاعية".


وبعبارات تحليلية أكثر دقّة، يمكن توصيف هذه الممارسات ضمن مفهوم "المشروطية الذرائعية"، أي استخدام شروط غير قابلة للتحقيق كذريعة لعدم التعاون، مع تحميل الطرف الآخر مسؤولية الانسداد.


بالتالي، وبعد فشل حملة "إسناد غزة"، من المرجّح أن يُمنى "الإسناد الاستراتيجي للمسؤولية" هو الآخر بالفشل، بما يترتّب عليه من كلفة مُرتفعة. وذلك في وقت لا يزال فيه بعض الأطراف مُتمسّكين بالتفكير الرغائبي والعمى الإرادي، مُعتقدين أن "حزب الله" لا بد أن يعود إلى كنف الدولة.