في عالم يتسارع فيه الزمن وتتلاشى فيه الذاكرة، يبرز علي شرّي كأحد الفنانين الذين يعيدون للزمن طاقته الكامنة، ويستعيدون الذاكرة الضائعة من بين أنقاض الماضي. منذ نشأته في بيروت، خلال أتون الحرب اللبنانية، مرّ شرّي بتجربة صعبة شكّلت رؤيته الفنية. إنه فنان يتنقّل بين الأنقاض والذكريات، يشتري القطع الأثرية المكسورة ويعيد تركيبها. لا يكتفي علي شرّي في أعماله بترميم الماضي، بل يعيد خلقه، ليكشف بذلك عن خفايا تاريخه المدفون. أعماله التي تمتزج بين الفن البصري، السينما، والأنثروبولوجيا، تعكس سعيه المتواصل للإجابة عن أسئلة الذاكرة، الهوية والتاريخ، وتعرض الماضي لا كما كان، بل كما يمكن أن يكون.
علي شرّي، المولود في بيروت عام 1976 والمقيم في باريس، فنان بصري وسينمائي، بل بالأحرى شاعر بصري ومستكشف للقطع الأثرية المنسيّة. درس التصميم الغرافيكي في "الجامعة اللبنانية"، ثم نال ماجستيراً في الفنون المسرحية من "جامعة باريس 8"، وتابع دراساته في الأنثروبولوجيا البصرية في "كلية الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية EHESS" بباريس. يبني منذ عقدَين عالماً يقع عند تقاطع التاريخ، والآثار، والحلم.
ماضٍ مهدّم ومستقبل قيد الإنشاء
لم تكن نشأة شرّي في بيروت خلال الحرب، تجربة عادية. فالحرب تترك آثارها على الجسد والذاكرة والمكان. هذا ما شكّل نظرته للعالم. عين ترى التشققات، وتقرأ ما وراء الواجهات، وتلتقط الألم المخفي. هذه النظرة يُسقطها شرّي اليوم على الأجسام والقطع الفنية، وعلى المتاحف والبشر أيضاً. يقول: "لا أبدأ من لا شيء، بل من قصص موجودة مسبقاً". ففنّه لا ينطلق من الفراغ، بل من الشظايا، يشتري في المزادات أو من مستودعات المتاحف قطعاً أثرية منبوذة: تماثيل مقطّعة، رؤوس مكسورة، أجسام مشوهة.
الأشياء الجريحة والمتاحف والنسيان
لا يكتفي علي شرّي بجمع هذه القطع، بل يعالجها، لا بالترميم، بل بالتأليف. يضيف إليها أجزاء جديدة، يركّبها على القديم من دون أن يخفي الجراح. لا يعود بالماضي إلى حالته الأصلية، بل يعمّق الكسور، فيضخّ الحياة في الموتى. تمثال روماني قديم قد يصبح له رأس أنوبيس، إله الموتى المصري. رأس بلا فم يتحوّل إلى ندبة ناطقة. تماثيل عيونها مفقودة تعود لتبصر، لكنها تبقى مغمضة.
فالمقصود ليس إعادة بناء الماضي، بل طرح الأسئلة: ما هو "الأصلي"؟ من يقرّر قيمة هذه القطع؟ ولماذا يُعرض البعض منها في متاحف فخمة، فيما يُنسى الآخر؟ وما الذي يقوله لنا ذلك عن حاضرنا؟
أجساد وأرواح
في معرض "أجساد وأرواح"، المستمرّ حتى 25 آب 2025 في "بورصة التجارة – مجموعة بينو Pinault" في باريس، أُعطيت لعلي شرّي حرّية فنية كاملة لاستعمال 24 واجهة زجاجية مستديرة تحيط بالقبة الرئيسة. حوّلها الفنان إلى محطّات شبه مقدسة، تسكنها أشباح الماضي (24 شبحاً في الثانية)، تعرض كل واحدة تركيباً فنياً يمزج القديم بالجديد، الأثري بالحديث، التاريخي بالخيالي.
الرقم 24 ليس عشوائياً، إنه يرمز إلى 24 صورة في الثانية في السينما. وهنا يبرز دور الإلهام السينمائي، إذ إنّ فيلم "دم شاعر" لجان كوكتو، إنتاج 1930، هو المرجع الأساسي لهذا المشروع. ففي عالم كوكتو المليء بالمرايا، التحوّلات، الأبواب السرية، والأفواه التي تنبت في الكفّ، يجد علي شرّي صدى قويّاً لأحلامه وهواجسه.
يقول إنّ "السينما تعيد الحياة للأجساد"، ومن خلال نصوص كوكتو المكتوبة بخطّه، والتي وزّعها في المعرض، يصبح الزائر هو نفسه بطلاً للفيلم. يمشي بين الواجهات كما لو أنه في حلم، يرى ويُرى.
أهمية ما لا يُعرض
المهم في عمل علي شرّي ليس ما يُعرض، بل ما يُخفى. المسافات بين القطع، الصمت بين واجهتَين، الغياب الذي يروي أكثر من الحضور. "الواجهات الزجاجيّة تنظر إلينا"، فهي ليست مجرّد زجاج يفصلنا عن الماضي، بل مرآة تعكس علاقتنا بالتاريخ، بالذاكرة، بأجسادنا.
لا يفصل علي شرّي بين الماضي والحاضر. القطع القديمة ليست ميتة، بل حيّة بجراحها وندوبها. تتكلّم، تتجاور، تخلق عالماً خفياً يتجاوز الزمان. في مشروع سابق في "متحف تورينو" للآثار المصرية، أعاد عبر تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد عيوناً مفقودة لتماثيل فرعونية، لكنها بقيت مغلقة. الصمت، أحياناً، أكثر تعبيراً من الكلام.
اعتراف عالمي
نال علي شرّي اعترافاً دولياً واسعاً. في العام 2022، حصل على "جائزة الأسد الفضي" في "بينالي البندقية" عن عمله في معرض "حليب الأحلام"، الذي عرض فيه رؤيته الأثرية السياسية المعقّدة. كما عرض أعماله في "المتحف الوطني" بلندن، وفي "جو دو بوم" في باريس، و "متحف غوغنهايم" في نيويورك، و "المركز المعاصر" في بوردو، وغيرها. في كل مكان، يحمل شرّي معه أشلاءه، أحلامه وأشباحه.
الفن تأمّل وجودي
لا يتعامل شرّي مع الفن كزينة بصريّة أو ترفٍ فكري، بل كأداة مقاومة وتأمل وجودي، في عالم تزداد فيه سرعة النسيان وتتكدّس فيه الصور والمعلومات بلا معنى، يأتي عمله كوقفة تأمّل. يقترح علينا التمهّل، الإصغاء، النظر العميق. أعماله ليست صاخبة، لكنها تُحدث ضجيجاً داخلياً. ذلك النوع من القلق الذي يُنبّهك أنك إنسان، لك تاريخ وجسد وقصص لم تُروَ بعد.
من خلال استخدامه لقطع أثرية منسيّة، لا يقدّم شرّي درساً في التاريخ، بل يعيد الإنسان إلى مركز الرواية. "من الذي يملك الحق في السرد؟"، يسألنا. "ولماذا نُعيد بناء تمثال ونُهمّش آخر؟". هذه الأسئلة التي يطرحها لا تتعلق بالماضي فقط، بل بالحاضر والسياسات الثقافية التي تتحكم في الذاكرة الجماعية.
في زمن تُستخدم فيه التكنولوجيا لتسطيح الصور والقصص، يستخدمها علي شرّي لاستعادة العمق: المسح ثلاثي الأبعاد، تقنيات التصوير، البرمجة. لكنها كلّها في خدمة الروح، لا في استعراض المهارة، فهو يدمج بين اليد والفكر، بين الحرفة والتأمل، بين العلم والحلم.
ولعلّ ما يجعل عمله مؤثّراً هو أنه لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يفتح الباب للزائر كي يسأل، كي يتأثر، وربما ليكتشف شيئاً عن نفسه في مرآة هذه التماثيل المكسورة. في حضرة فن علي شرّي، يصبح الكسر شكلاً من أشكال الجمال، والصمت طريقاً إلى الفهم، والذاكرة فعل مقاومة ضد الزوال.
فنّ القلق والحنان
"كل هذه الجراح لا تستطيع أن تصمت"، يردّد. وهنا تكمن قوّة فنه، في الإصغاء للجراح القديمة، في رفض النسيان، في عدم طمس الألم. لا يسعى شرّي للمصالحة بين الماضي والحاضر، بل لخلق تعايش بينهما، فيه احتكاك وخلاف، ولكن أيضاً جمال جديد.
من خلال التركيبات، والتطعيم، والخلط بين الثقافات والتواريخ، يُعيد علي شرّي الروح لأجساد منسيّة، يجعلها تنطق – أو تهمس. والمتفرجون، يصبحون شهوداً على هذه المعجزة الهادئة. ففي تأمّل أعماله، يتأمّلون ذاكرتهم، ويتساءلون: كيف نعيش نحن في هذا العالم؟ وما الذي سنتركه بدورنا خلفنا؟