في وطن أرهقته الانتظارات وخيبات الأمل، جاء الرابع من أيار 2025 ليرسم مشهداً جديداً نادر الحدوث في الذاكرة اللبنانية الحديثة. انتخابات بلدية واختيارية، جرت في موعدها، بهدوء، وبحضور أمني احترافي، وكانت بحد ذاتها حدثاً جديراً بالتوقف عنده. لكن ما جعل من هذا اليوم استثنائياً فعلاً أنّه كشف ربّما لأوّل مرّة أنّ الدولة بكل ما تمثله من مؤسسات وسلطات ومرجعيات، تستطيع أن تكون فعالة، وعادلة، ومطمئنة حين تقرر أن تتصرّف كدولة.
منذ ساعات الصباح الأولى، بدت الصورة واضحة. القوى الأمنية، وفي مقدمها جهاز قوى الأمن الداخلي وجهاز أمن الدولة، كانت منتشرة على الأرض بخطة مدروسة تُظهر أنّ هناك قراراً واضحاً بعدم ترك الأمور للارتجال أو الفوضى. وبالتالي لم يحصل ازدحام عبثي، ولا استعراض للقوة، ولا غياب مُريب كما جرت العادة. بل على العكس، بدا أن الأجهزة الأمنية أدّت دورها كراعٍ محايد وضامن لحق الناخب في الاقتراع، لا كطرف ضمن لعبة النفوذ السياسي أو كمتفرج عاجز.
أكثر من ذلك، سُجلت مشاهد أثارت تقدير الناخبين والمراقبين على حد سواء، حين شوهدت عناصر من قوى الأمن الداخلي وهي تساعد ناخبين من ذوي الاحتياجات الخاصة، وترافقهم إلى الداخل، لتسهيل حركتهم، وتتعامل معهم بقدر عالٍ من الاحترام والإنسانية. هذه التفاصيل ليست ثانوية في سياق بناء ثقة مفقودة بين المواطن والدولة. على العكس، هي من العلامات الفارقة التي تزرع شعوراً بأنّ الانتماء إلى هذا الكيان ما زال ممكناً، وأن من يمثل "السلطة" يمكنه أن يكون حامياً لا متسلطاً.
هذه الجولة من الانتخابات، أتت كأول استحقاق فعلي في ظل عهد الرئيس جوزاف عون، فكانت اختباراً مزدوجاً بين اختبار تقني للمؤسسات، واختبار معنوي لجدية القيادة السياسيّة في قلب الصفحة. وقد يمكن القول، بموضوعية، إنّ النجاح الأمني والتنظيمي لهذا الاستحقاق لم يكن مجرّد صدفة، بل بدا ثمرة قرار سياسي واضح بوضع الدولة مجدداً في موقع الفعل، لا في موقع التبرير أو التخلي. ولعل الأهم أن ما حصل لم يكن مجرد نتيجة ظرفية أو تجميل إعلامي ليوم انتخابي، بل بدا وكأنه يعكس روحاً مختلفة في التعامل مع مفهوم الدولة ومؤسساتها.
قد يعتقد البعض أنّ إشادة كهذه لا يجب أن تُقال إلّا بعد إنجاز أكبر. ولكن في بلد اعتاد مواطنوه على مشاهد الفوضى، والزبائنية، وغياب التنظيم، والتدخلات الفجة يوم الانتخاب، فإن ما حدث في الرابع من أيار يستحق أن يُسجل، لا من باب المديح، بل من باب تثبيت معايير جديدة يُفترض أن تصبح القاعدة لا الاستثناء. نحن لا نتحدث هنا عن انتخابات تشريعية، ولا عن محطة فاصلة في التوازنات الكبرى، بل عن استحقاق بلدي واختياري غالباً ما كان يُنظر إليه كمجرد تفصيل إداري، ومع ذلك، فقد حمل هذا التفصيل معاني أكبر بكثير مما توحي به طبيعته التقنيّة.
ما حصل في هذا اليوم يفتح الباب على إمكانية التغيير الحقيقي، لا كشعار، بل كممارسة يومية تبدأ من كيفية إدارة الانتخابات، مروراً بتعامل الدولة مع مواطنيها، وصولاً إلى إعادة تعريف دور القوى الأمنية، ليس كأداة ضبط، بل كمؤسسة من مؤسسات الخدمة العامة، والملتزمة بالقانون.
الرابع من أيّار لم يكن مجرّد محطة عابرة. كان لحظة قالت فيها الدولة إنّها لا تزال قادرة، إن قررت، أن تكون دولة. لحظة شعَر فيها الناخب، ولو لمرة، أن هناك من ينظم حقوقه لا من يصادرها. وأنّ ثمة عهداً جديداً لا يريد فقط أن يُعلن نفسه، بل أن يبرهن عن نفسه، بفعلٍ ملموس لا بخطاب شعبوي.
هذا الإنجاز لا يجب أن يُترك ليذوب في الزحام. بل يجب أن يُبنى عليه، وأن يُحمى من ارتدادات السياسة اللبنانية التقليدية. الجولات المقبلة من الانتخابات ستكون مقياساً أكثر دقة لنية الاستمرار على هذا النهج. والرهان يبقى في أن تستمر الدولة، بكل أذرعها، في السير بهذا الاتجاه، ليس فقط في الانتخابات، بل في كل ما يخص إدارة الشأن العام.
لقد أثبتت التجربة أن الكفاءة ليست غائبة، بل مغيّبة. وأن غياب الدولة لم يكن قدراً، بل خياراً سيئاً اتُخذ مراراً.