ريتا عازار

"بيجاما الثورة" و "كيس البصل"

رحلتي من الصحافة إلى تصميم أزياء وجودية

من زمان، يمكنكم التكهّن أنّ من نحو ألف عام، كنت أفكّر أنا العظيمة المبجّلة، أنني إن تخلّصت يوماً من البكتيريا الحميدة المعروفة باسم الصحافة، فلن أكون سوى منسّقة أزهار، أعيش بينها ليس لأنني أشبه الزّنبق الممشوق فقط، أو لأنّ فمي صغير كـ "تمّ السمكة" ودماغي ملفوف كزهرة الفلّ المفضّلة لديّ، حاشا لله، فقط لأنني أحبّ الزهور على أشكالها وأحبّ الاستلقاء في أحضانها. ولكن يأتي التوليب من هولندا، لا كما تشتهي سفن بكتيريا الصحافة، وهكذا من القلم إلى الكيبورد لم أنسّق لا "أستوما" ولا ورود. إنما "من كم يوم"، أصبت بلوثة تصميم الأزياء. بدأ كلّ شيء في اليوم الذي ارتديت فيه - بدون سخرية رجاءً - سروالاً من المخمل البرتقالي المحروق، فقالت لي سيدة في الشارع: "أنتِ مصمّمة أزياء، أليس كذلك؟". لم أصحّح لها. قلتُ شكراً. ومن هناك، تغيّر كلّ شيء.



قضيتُ المساء أشاهد مقابلات مع جان بول غوتييه، وأبكي على صورة لصونيا ريكييل ترتدي كنزة مخطّطة. وفي اليوم التالي، أعلنتُ لمن حولي أنني سأترك كلّ شيء لأصبح مصمّمة أزياء.


اكتشفتُ متعة مفردات الموضة. لم تعد التنّورة "تنّورة"، بل أصبحت "سرداً نسيجياً للهشاشة". واللون البيج؟ أصبح "بعداً تقليلياً". أما الحاشية؟ "فحدّ مساميّ بين الملموس والمتحرك". هكذا تقول الموضة.


طرائف مفصّلة بالخيط والإبرة

وهكذا، انغمستُ في عالم المصمّمين العجيب. وهناك، يا ريتا، يا مستنيرة، كم رأيتِ أشياء كثيرة. نعم رأيتُ الكثير. التقيتُ مصمّماً لبنانيّاً فذّاً لا يؤمن إلا بستائر الحمّام كمادة أساسية، نظر إليّ مباشرة في عيني وقال: "البلاستيك هو مستقبل الإحساس". أومأتُ كأنّني فهمت، لكنني "وحياة البطانة" لم أفهم شيئاً!


رأيتُ مصمِّمةً ترمي فستاناً لأنّه "تأثّر بِطاقة سيّئة" من متدرّبة من برج الحوت، طالعها برج العذراء.

شهدتُ شجاراً بين خيّاطَين، لأنّ أحدهما تجرّأ وقال: "الساتان مبالغ فيه". فخرج الآخر من الغرفة وهو يصرخ: "أنت ميتٌ داخلياً في عالم الموضة!".



رأيتُ محرّرة موضة مشهورة، يُغمى عليها عند مشاهدتها مزيجاً من "طبعة الفهد" و "ممسحة"، ولم تستفق إلّا بعد أن شمَّت وشاحاً حريرياً من "Hermès"، هذا حدث فعلاً. الوشاح كان إصدار 1982. همستُ متنهّدةً: "أشعر بالمربّع".


المواد التي تختارني

قبل أن أشتري أيّ قماش، أنتظر أن يتحدّث إليّ. نعم، حرفيّاً. مرّةً كنت في سوق شعبية، وسمعت صوتاً ضعيفاً يقول: "أنا كتّان مُعاد تدويره من خيمة مهرجان موسيقى صيفي، خذيني معك". لم أستطع تجاهله. منذ ذلك اليوم، لم أعد أشتري أيّ خامة بناءً على الموضة، بل على الإحساس. الشيفون يُغني، الجلد الصناعي يئنّ، والدنيم يثرثر كثيراً لكنه صادق.


أصدقائي يضحكون عندما أمسك القماش بوجهي مغمضة العينين، لكنهم لا يعلمون أنني في تلك اللحظة أعيش حواراً عميقاً مع روح النسيج. بعض الأقمشة ترفض أن تُقصّ، وبعضها تطلب أن تتحوّل إلى سروال واسع "ليتنفّس الحوض". أصبحت علاقتي بالمواد علاقة حب غير مشروط. أؤمن أنّ القماش يختار مصيره، وأنا فقط الوسيطة بينه وبين جسد الإنسان الباحث عن المعنى.


مخاطر المهنة

كنت واثقة أنّ مستقبل الموضة يحتاجني، خصوصاً بعد أن رأيتُ أنّ معظم العارضات صرن يرتدين أكياس بطاطا مُعاداً تدويرها، على أنها "إطلالات ما بعد الحداثة". من هنا، قرّرتُ أن أصنع الفرق. وأقصد بالفرق، فرق السعر، لأنّ تصاميمي ستكون "فاخرة ولكن للفقير الحالم". خرجت من غرفة التحرير وأنا أرتدي شالاً مهترئاً من صوف أمي، لكنّي كنت أشعر وكأنّي أرتدي "كاب إيلي صعب لخريف 2031".


سرتُ في الشارع بخطى ثابتة، وكأنني أتمشى على "رانواي" بين أكياس الزبالة ومولدات الكهرباء. شعرتُ أنّ كلّ شيء يناديني: حتى البائع المتجول صرخ في وجهي: "مدام، بدّك "شحّاطة" بلاستيك؟ عندي موديلات 2020–2025!"، فابتسمتُ له وقلت: "احفظ هذه. ستكون أول قطعة في مجموعتي المستقبلية: الوجع الشعبي كوتور". الناس لم يفهموا. أهلي ظنّوا أنني مصابة بانهيار عصبي. صديقي المصوّر قال لي: "بس كيف؟ إنتِ كنتِ تكتبي مقالات، هل انهرتِ كما اللّيرة؟".


أجبته: "الآن سأصمّم فساتين تنهار معها الليرة أيضاً، ولكن بأناقة".

بدأتُ العمل. أخذتُ ماكينة خياطة من خالتي، لم تعمل منذ عام 1992. اشتريتُ قماشاً رخيصاً من السوق الشعبية، يلمع بطريقة مشبوهة، كأنّه مطليّ بدهون مريبة.


صمّمتُ أوّل فستان. حاولتُ أن أدمج فيه معاناة الشعوب، الحنين إلى ما قبل الثورة، و "ستايل عباءة جدّتي". خرج الفستان يشبه كيس بصل مربوطاً بحزام عسكري. لكنّني كنت واثقة. أطلقتُ عليه اسم "Nostalgia 3ammo". وضعت صورته على "إنستغرام"، وكتبت تعليقاً: "تمرُّدٌ على مفاهيم الجمال الكلاسيكي، وعودة للهوية النشوية".


وبعد عشر دقائق بالتمام والكمال، حصلتُ على أول تعليق: "مين خيّط هالكفن؟ أحلامي على عروش اللبنانيين: كارل لاغرفيلد؟ ولا شي قدامي".

بدأتُ أتخيّل نفسي جالسة إلى جانب زهير مراد في "مهرجان كان"، وهو يهمس لي: "يا لها من عبقرية، لقد صنعتِ من القماشة المهملة ثورة!". أو أني أتلقى رسالة تهنئة من دار "شانيل" تقول: "نريد ضمّكِ إلينا، لقد أسرنا فستانك الذي يشبه خريطة الطرقات في ضواحي بيروت".


أردت التفوّق على المصمّمين اللبنانيّين العالميّين: إيلي صعب، زهير مراد، وكل الباقين. لكنني لم أملك طاقماً من 70 شخصاً، ولا "كاتالوغاً" مصوَّراً في قصر فرنسي عريق، فصمّمت ثاني فستان على سطح البيت، ولعب الهواء دَور الريح الصناعية وأطلقت عليه اسم: "أزمة الموضة".


اعتقالي معنوياً على "تيك توك"

قرّرتُ أن أنظّم عرضاً لأزيائي. استعنتُ بصديقاتي. عرضنا في قبو صغير تحوّل إلى "باريس تحت الحصار". كانت الموسيقى من سبوتيفاي المجّاني (مع الإعلانات)، والإضاءة لمبة واحدة وفلاش جوّال. الفستان الأخير كان قطعة المقاومة: أطلقتُه باسم "بيجاما الثورة". كان عبارة عن بيجاما قطنيّة قديمة، طرّزتُ عليها شعار "كلّن يعني كلّن" بخيطان مطبخ. انهار الجميع بالضحك. البعض بكى. أنا صفّقت لنفسي بمرارة.


صحيح أنني لا أملك بعد دار أزياء، ولا أعرف الفرق بين الـ "توول" والـ "أورغنزا"، لكنّني على الأقل أعرف أنني حاولت. هل كنت موهوبة؟ لا أدري. لكنني صمّمت فستاناً من قماش الستائر، وأقنعت ثلاثة أشخاص أنه "صرخة وجودية". وهذا، أعزائي، أكثر مما تفعل بعض الماركات في أسبوع الموضة.


أخرجي أختك من اللوحة

قرّرتُ المشاركة في "أسبوع الموضة البديل" في برلين. حدث دولي يستقبل مصمّمين ناشئين لديهم أفكار جريئة، و "تصوّرات راديكالية عن الجسد والأقمشة". قلت لنفسي: "أنا لدي تصوُّر راديكالي عن كل شيء، حتى عن الكهرباء!. أرسلتُ لهم ملفّ أعمالي. ثلاث صُوَر:


1. فستان مصنوع من أكياس الخبز.


2. عباءة مزخرفة بأزرار لم تُستخدم قط.


3. أختي وهي ترتدي فستاني الثالث أمام ستارة الصالون (بصراحة، لم أجد عارضة متوفرة، وكانت أختي تمرّ من هناك).


تلقيت رداً سريعاً: "العمل جريء، وتجريبي... لكن، هل يمكن إزالة السيدة الجالسة في خلفيّة الصورة؟ يبدو أنها تأكل منقوشة زعتر، وهذا يتعارض مع فلسفة العرض النباتي". حاولت الدفاع: "هذه أختي، وهي ليست فقط جزءاً من التركيبة البصرية، بل التجسيد الكامل لهوية الفستان!". فكان الردّ: "نحن نقدّر علاقتكِ العاطفية بالأقمشة...


لكن نرجو احترام مفاهيم العرض". انتهى بي الأمر مرفوضة، لكن فخورة. فبينما يتسابق المصمّمون لعرض أفكارهم عن "ما بعد الجندر"، و "تفكيك البذلة"، كنتُ أنا الوحيدة التي تُقدّم ثوباً يشبه وجبة فطور كاملة. ضحكتُ كثيراً، ثم طبعت بريد الرفض، وعلّقته على الحائط إلى جانب أول فستان صمّمته. أسفل البريد كتبتُ بقلم "ماركر" أحمر: "رفضوها، لأنّ العالم لم يكن مستعداً بعد". وهذا كافٍ كي أعتبر نفسي نجمة صاعدة... ولو كنت صاعدة على درج خلفي.



"البرتقالي المحروق" هو السبب



ماركتي الخاصة



"الله يستر" على الستائر



أنا المستنيرة