بشارة جرجس

هل صندوق النقد ممر إلزامي للبنان للنهوض؟

منذ انفجار الأزمة المالية والاقتصادية عام 2019، ترسّخت في الذهن اللبناني قناعة مفادها أن التعافي الاقتصادي لا بد أن يمر عبر صندوق النقد الدولي وشروطه الصارمة، التي غالباً ما وُصفت بأنها مُرّة ولكن ضرورية. إلا أن الواقع أثبت مراراً أن الجمود والتخبّط السياسي، وتعطيل الإصلاحات البنيوية الأساسية، قد وضعا صندوق النقد في موقع المتفرّج على الانهيار اللبناني المستمر.


على مدى السنوات الماضية، ماطلت الحكومات المتعاقبة في تنفيذ الإصلاحات، ومنها قانون الكابيتال كونترول، وخطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومشروع استقلالية القضاء. أما اليوم، فقد تغيّرت المعطيات إلى حدّ ما، مع إقرار قانون إطار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي يُعد خطوة أولية جدية، وإن لم تكن كافية بعد. كذلك لا تزال مشاريع قوانين ملحّة تنتظر البتّ في مجلس النواب، أبرزها قانون استقلالية القضاء، الذي يُعتبر مدخلاً أساسياً لاستعادة الثقة المحلية والدولية.


يبقى التحدي الأكبر في صياغة قانون يعالج الفجوة المالية، المقدّرة بين 76 و80 مليار دولار وفق أحدث تقديرات الحكومة اللبنانية. ويتطلّب ذلك توزيعاً عادلاً وشفافاً للخسائر بين الدولة، مصرف لبنان، المصارف التجارية، والمودعين، خصوصاً في ظل تراجع الاحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان إلى مستويات مقلقة لا تتجاوز 9 مليارات دولار.


لكن التطور الأبرز جاء على لسان مورغان أورتاغوس، الموفدة الأميركية الخاصة إلى لبنان، التي أعلنت في منتدى قطر الاقتصادي بتاريخ 20 أيار 2025، أن لبنان قادر على التعافي والنهوض من دون اعتماد حتمي على صندوق النقد الدولي، شرط توفّر رؤية سياسية واقتصادية واضحة، وقرار جريء بالانتقال من نموذج المساعدات إلى نموذج الاستثمارات الكبرى، بما يعيد لبنان إلى موقعه كوجهة جاذبة لرؤوس الأموال والاستثمارات العالمية.


إمكان تحقيق هذا المسار متوفّر، لكنه ليس سهلاً. فهو يتطلّب أولاً وعياً حقيقياً من الدولة بواجباتها الإصلاحية، ومسؤولية مشتركة من جميع الأطراف: من مجلس النواب، والمصرف المركزي، والقطاع المصرفي، مروراً بالقضاء والمودعين، وصولاً إلى بعض الأحزاب السياسية والجمعيات، التي بات عليها التخلي عن المناكفات والنزاعات الضيقة، والانخراط في رؤية اقتصادية جامعة.


تعقيدات الواقع اللبناني تكمن أساساً في تشابك المصالح السياسية والمالية، واستمرار بعض الخطابات الشعبوية واليسارية التي تعرقل الحلول الواقعية. ومن هذا المنطلق، لا بد من الانتقال من التنظير السياسي إلى التنفيذ العملي، عبر إقرار قوانين إصلاحية عاجلة وعادلة توزّع الأعباء المالية بطريقة متوازنة وشفافة.


لقد كلّف الوقت الضائع لبنان سبع سنوات من الانهيار المتواصل. وحان الوقت لوضع حدّ للنقاشات العقيمة حول “جنس الملائكة”، والانطلاق إلى مسار عملي يُعيد بناء الثقة المفقودة بين اللبنانيين أنفسهم، ومع المستثمرين المحليين والأجانب، والمجتمع الدولي.


ويبقى القضاء على اقتصاد الكاش وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي أولوية لا غنى عنها. فالممر الإلزامي للنهوض ليس صندوق النقد بحد ذاته، بل إعادة إحياء القطاعات الأساسية، وتعزيز الإنتاج، وبناء مؤسسات الدولة، بدل الانشغال بمسارات يمكن تجاوزها بوعي ومسؤولية.