عيسى مخلوف

وقفة من باريس

لمن سنترك هذه البلاد؟

24 تشرين الأول 2020

02 : 00

توقّفتُ أوّل من أمس عن كتابة مقالي لهذا الأسبوع لأتصفّح العدد الجديد من صحيفة "لوموند" التي وضعت على صفحتها الأولى العنوان التالي: "هجرة الأطبّاء اليائسين من تطوّر الوضع في لبنان". قرأتُ المقال ولم يعد بإمكاني أن أواصل ما كنتُ بدأتُ كتابته، إثر قراءتي شهادات عدد من الأطبّاء اللبنانيين الذين قرّروا الرحيل بعد أن شعروا بأنّ الانتظار لم يعد يجدي.

الطبيب الأول تحدّث عن زلزال الرابع من آب وكيف استقبل الموتى والجرحى في "المركز الطبّي للجامعة الأميركيّة" في بيروت، وماذا رأى ليلة الرعب: "أجساداً بلا رؤوس وأشخاصاً ممسكين بأمعائهم". يضيف أنه كان حاضراً في المستشفى أيضاً يوم حدث الانفجار الذي أودى بحياة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بالإضافة إلى 22 قتيلاً و220 جريحاً، ثمّ الانفجار الذي قضى على الإعلامي جبران تويني. "هذا البلد يذهب نحو الهاوية ولم يعد في مقدوري أن أتحمّل"، يقول هذا الطبيب الذي اتّخذ قراراً بالرحيل.

طبيب آخر يقول: "كبرتُ في الحرب الأهلية وكنت أنتقل من ملجأ الى آخر. لا أريد الآن أن يعيش أولادي التجربة نفسها التي عشتها". أمّا جرّاح الأعصاب الذي حاول أن ينقذ الطفلة ألكسندرا نجّار، في مستشفى "أوتيل ديو"، لن ينتظر "تغيُّراً قد لا يأتي أبداً". هذا الطبيب فقد أمله كلّيّاً عندما توفيت ابنة الثلاث سنوات بين يديه متأثّرة بجروحها، وكان هو الذي حاول أن ينقذ حياتها. عندما أطبقت جفنيها وغادرت، كتبَ هذه الكلمات المؤثرة على "تويتر": "أنا آسف، ألكسندرا. لقد حاولنا حقّاً. سامحينا، سامحينا، سامحينا".

أخيراً، هذه الشهادة لطبيبة نسائيّة تروي فيها كيف أنّ المستشفى تحوّل فجأةً الى مساحة محصّنة كما في زمن الحرب. "كانت هناك دماء على الأرض، وعلى الجدران، في كلّ مكان. لم يأتِ أحد من المسؤولين ليقدّم اعتذاره لنا. إنّنا محكومون بمجموعة من الحمقى الذين باعونا للشيطان". بين هؤلاء الأطبّاء، هناك طبيب واحد قرّر البقاء على الرغم من كلّ ما جرى ويجري. "لمن سنترك البلاد إذا غادرنا جميعاً؟"، يتساءل هذا المطعون بحبّه للبنان.

ليس الأطبّاء وحدهم من قرّر الهجرة، بل هناك عدد كبير من اللبنانيين من مختلف المجالات والقطاعات، من طلاّب جامعيين وإعلاميين إلى مهندسين ومحامين وغيرهم. لقد تمكّنت الطغمة الحاكمة أن تعزل الشابّات والشباب وتضعهم على أرصفة الذلّ والبطالة والهجرة. "هجرة الأدمغة"، كما جعلونا نردّد كالببّغاوات منذ عقود من الزمن في بلد تحوّلت هجرة أبنائه إلى جزء من كيانه وتكوينه، وهي ليست الهجرة المألوفة والمعروفة لدى أغلبيّة الشعوب. إنّ الهجرة التي عشتها أنا نفسي، كما عاشها من حولي عدد كبير من الذين هربوا من الحرب الأهليّة، هي تجربة مركَّبة لا يمكن اختزال ألوانها في لون واحد، وإذا كان بعضها يُثري ويحيل إلى ولادات جديدة فإنّ بعضها الآخر تجسيد للمنفى وامتداد لشقاء عابر للقارّات.

قال جبران خليل جبران: "لبنانكم عقدة سياسيّة تحاول حلّها الأيّام"، لكنّها، مع الأيّام، ازدادت تعقيداً، وظلَّ لبنان المُرتجى مؤجّلاً. بقاء هذه الطبقة السياسيّة في الحكم - مجرّد بقائها في الحكم - هو جريمة ضدّ الإنسانيّة. وهي لا تفتأ تأخذ لبنان من كارثة إلى أخرى. هذه الطبقة، ومن يحميها في الداخل والخارج، تعمل على تفكيك البلد واغتياله بعد أن اغتالت عدداً من رموزه، ودمّرت عاصمته، وأطفأت أنواره، وسمّمت ماءه، ونهبت أمواله، وهجَّرت أبناءه وجعلته ساحة مفتوحة لحروب لا تنتهي. ولا حلّ من دون التخلّص من هذه السلطة الإكراهيّة التي تجذّرت في التربة وبدا اقتلاعها أشبه باقتلاع البلد نفسه. لكنّها لن تكون كذلك حين تتبلور رؤى التغيير وتتضافر الجهود لكسر القيود الطائفيّة والقبليّة وكلّ ما يهدّد الفرد سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً ونفسيّاً.

هل وصلنا الآن إلى اللحظة الفاصلة، لحظة معرفة مصير هذا الطائر الذي يشدّ كلٌّ من جناحيه في اتّجاه مختلف؟ هل آن الأوان لقول ما كنّا نتردّد في قوله، إنّ لبنان السلاح والطائفيّة وذهنيّة الميليشيات والارتهان الكامل للخارج هو الذي انتصر مثلما انتصر الاغتيال السياسي على الحوار السياسي، أم أنّ الجمر لا يزال يتحرّك تحت الرماد، وسيخرج لا محالة إلى العلن، أكثر زخماً وأكثر توهُّجاً؟


MISS 3