الياس دمّر

أكثر من 38,000 مُشاهد في شهرين ونصف

"نهاد الشّامي: للإيمان علامة" نموذج لنجاح السّينما اللّبنانيّة

أبت السيّدة الفاضلة نهاد الشّامي أن تترك هذا العالم، من دون إيداع رسالةٍ مُلهمةٍ أخيرة من خلال فيلم "نهاد الشّامي: للإيمان علامة"، الذي حقَّق نجاحاً سينمائيّاً لبنانيّاً لم نشهد مثيله منذ خمس سنوات! فبعد شهرَين ونصف على عرضه، تجاوز عدد مُشاهديه 38,000 شخص في صالات السّينما اللبنانية، مُتفوّقاً على الكثير من الإصدارات العالميّة التي أطلقت خلال تلك الفترة. وهذا الحاصل يُعدّ إنجازاً بحدّ ذاته في سوقٍ مُتقلِّبٍ ومحدود نسبيّاً مثل لبنان، خاصّةً ضمن الظروف الاقتصاديّة التي يمُر فيها البلد.



رغم التحدّيات الاقتصادية والسّياسية التي عصفت بالبلاد، تُواصل السّينما اللبنانية إثبات قدرتها على الحضور الجماهيري والتأثير الثقافي، لا سيّما في السنوات الأخيرة؛ حيث عُرضت أعمال استطاعت تحطيم الأرقام ولامست وجدان المُشاهد اللّبناني. من تلك الأعمال، برزت خلال السّنوات العشر الأخيرة أفلام حقّقت علامات فارقة في مسيرة السّينما المحليّة؛ بينها الدرامي مثل: "قضيّة رقم 23" (129,128 مشاهداً) و "كفرناحوم" (203,005 مشاهدين)، إلى الكوميدي مثل: "خبصة" (76,305 مشاهدين)، والرّوحي مثل: "مورين" (75,701 مشاهد)، والعديد غيرها.



الأكثر مُشاهدة 

ويأتي فيلم "نهاد الشّامي: للإيمان علامة" ليؤكد أنّ الجمهور اللبناني لا يزال يُقدّر السّينما حين تُلامس واقعه الرّوحي والاجتماعي والعائلي. وبتجاوز عدد مُشاهديه 38,000 شخص في صالات السّينما اللبنانية، أصبح الفيلم اللّبناني الأكثر مُشاهدةً منذ بداية 2020 حتّى اليوم.


تميّز هذا العمل بسَرده قصّة الرّاحلة السيّدة نهاد الشّامي بأسلوب وثائقي-درامي، مزج فيه المُخرج والكاتب سمير حبشي بين البُعدَين الإيماني والإنساني، طارحاً تساؤلات عن معنى الإيمان، ودَور الإنسان في مُجتمعه من خلال تجربة فرديّة مُتجذّرة في القيم الروحيّة.



الفيلم لامس شريحة واسعة من المُشاهدين، لا من مُنطلق ديني فقط، بل كقصَّة إنسانية نابضة بالتّجربة والصّراع الداخلي والالتزام العائلي. كما أنَّ نجاح الفيلم في صالات السّينما المحليّة يؤكّد أن السّوق اللبناني لا يتعطّش فقط للإنتاجات التجاريّة العالميّة، بل يبحث أيضاً عن قصص قريبة منه، تُحاكي وجدانه وتغذّي حاجته إلى المعنى والإيمان والقيم.



نمو شبّاك التّذاكر

بعد أن فصّلنا سابقاً تفوّق شبّاك التّذاكر المحلّي (راجع مقالنا: "كيف أصبحت صالات السّينما اللّبنانيّة الأولى عربيّاً؟" - عدد 1479 - 11-01-2025)، نشارككم مُجدّداً أحدث الأرقام المُبشّرة، والصّادرة عن "تجمّع صالات السّينما في لبنان". حيث حقَّق الـ "Box-Office" اللّبناني نموّاً بنسبة 2 % لعدد المُشاهدين مقارنةً بالفترة نفسها من السّنة الماضية (المُمتدَّة من 1-1-2025 حتّى 14-05-2025).


والجدير مُلاحظته أيضاً في الأرقام، أنَّ نسبة المُشاهدة تفوّقت من 359,874 إلى 367,064 مُشاهداً، ما يعني أنَّ فيلم "نهاد الشّامي: للإيمان علامة" أتى علامةً مُميّزةً في أهميّة الفيلم اللّبناني لدعم نمو شبّاك التّذاكر السّينمائي. فلولا نجاح عرضه لكُنَّا اليوم نتحسَّر على أرقام السّنة الماضية...


ويُشير باسكال رحمة، مدير التّوزيع في شركة "Empire"، إلى أنَّ الفيلم اللّبناني يُشكّل بالتّأكيد فارقاً لنموّ النّاتج الإجمالي لشبّاك التّذاكر المحلّي، كما هو الحال مع الأفلام السّعوديّة والمصريّة في المملكة العربيّة السعوديّة. وشدّد رحمة في حديثه لـ "نداء الوطن" بأنَّ ارتفاع مُعدَّل أسعار البطاقات في لبنان (من 6.35 الى 7.7 دولارات) لم يُضعف نسبة الإقبال على الصالات، بل شهدنا أيضاً أعلى نسبة نموّ ربحي 49.03 % بين الدّول العربيّة، ما يُساعد المُشغّلين على تغطية تكاليفهم وتحقيق أرباح اضافية.



من هنا نجد أنَّ الأفلام اللبنانية التي تتفوّق تجاريّاً تُمثّل أكثر من مُجرَّد نجاح مالي؛ فهي بمثابة شهادة على تعافي السّينما اللبنانية من أزمتها، وعلى قُدرة الجمهور اللّبناني على دعم الإنتاج المحلّي حين يكون الأخير صادقاً، واقعيّاً وذا صلة مباشرة بهمومه وهويته. لطالما ردّدنا، نجاح الفيلم اللّبناني يبدأ من النّاس، فكم مرّة سمعنا المُشاهد يقول: "فيلم بيشبهنا لهيك نجح!".




مُعادلة الفيلم اللّبناني النّاجح

يطرح فيلم «نهاد الشامي: للإيمان علامة» نموذجاً يُمكن البناء عليه: موضوع إنساني مؤثّر، إنتاج مُتمكّن لشركة "White Media 121"، إدارة فعّالة واستجابة جماهيريّة عالية.


هذا النّموذج قد يفتح الباب أمام مزيد من المشاريع التي تجمع بين البُعدَين الرّوحي والفنّي، في وقت يُعاني فيه اللبناني من تراجع القيم وصعوبات الحياة. فنجد أنّ نجاح الأفلام اللبنانية في شبّاك التذاكر ليس وليد الصّدفة، بل هو نتيجة تراكميّة لتجارب فنيّة وشخصيّة حملها المُخرجون والمُنتجون بقلوبهم قبل كاميراتهم. ويبدو أنّ الجمهور اللبناني، رغم كل شيء، لا يزال يُقدّر السّينما التي تُشبهه وتحترم ذكاءه وتُخاطب قلبه.




عتمة التّوزيع المحلّي

خلال إعدادنا هذه الدّراسة المُقتضبة، راودتنا مُعضلة يُعاني منها الفيلم اللّبناني المُستقل لو وُجد من يُنتجه، وهي: التّوزيع!


ففي لبنان تسوء الأمور، حيث أنَّ مُعظم أصحاب ومُشغّلي صالات السّينما يملكون شركات توزيع أفلام خاصّة بهم أو أذرُعاً توزيعيّة في شركاتٍ أخرى (تلعب دور الشّريك الصّامت)، ما يؤدّي إلى تضارب المصالح (Conflict of interest). تارةً نرى فيلماً لبنانيّاً يُكمل مسيرته مُطوّلاً ومدعوماً، وتارةً نجده سُحب من الصّالات ما إن تنفَّس الصُّعداء. لتبقى الحُجَّة الخالدة الدائمة للصّالات، بأنَّ الأفلام التي لا تتخطّى عتبة الـ 2000 مُشاهد في الأسبوع الأوّل، تذهب مع الرّيح!



ويُوضح باسكال رحمة في هذا الإطار، أنَّ الفيلم اللّبناني يُعاني من غياب القوانين التي تحميه من تلك الآفة، بعكس مصر، حيث تُعطى الأولويّة دائماً للفيلم الوطني مع تحديد عدد الأفلام الأجنبيّة المسموح عرضها سنويّاً في صالات السّينما. ويُضيف رحمة أنَّ المملكة العربيّة السّعوديّة تفوّقت على الجميع في دعم الإنتاج السّينمائي المحلّي، حيث أنَّ دُور السّينما تُعفى ضريبيّاً عند عرض الفيلم السّعودي في مُجمل صالاتها. ونبحث لنجد أنَّ الموزّعين في الغرب وجدوا حلّاً يُناسب الطّرفين، اعتُمد الأسبوع الماضي في توزيع الفيلم المُنتظر "The Phoenician Scheme" في صالات السّينما الأميركيّة. حيت وُضعت استراتيجية تُعرف باسم "platform release"، تُستخدم غالباً مع الأفلام المُستقلّة لجسّ نبض السوق قبل التوسُّع. وانطلق فيلم المُخرج Wes Anderson في ستّ صالات فقط، مُحقّقاً أرباحاً تخطَّت نصف مليون دولار. ونجاح الفيلم في هذا النموذج المُبكّر، وفّر زخماً إعلاميّاً ونقديّاً مهّد الطريق للتوسّع المدروس للعروض في الأسابيع المُقبلة.



من خلال هذه الاستراتيجيّة الذكيّة، تمكّن الفيلم من تحقيق نسبة إشغال عالية، ودفع النقاّد والجمهور للحديث عن الفيلم، ما ساعده في كسر حاجز الفئات الفنيّة الضيّقة. والأهم جعله يُحقّق النّجاح التّجاري دون أن يُفرِّط في هويّته الفنيّة!

وبالعودة لسينمانا، يبقى فيلم «نهاد الشّامي: للإيمان علامة» مثالاً حيّاً على قدرة السّينما المحلية بأن تكون صوتاً روحيّاً ومرآةً اجتماعيةً وأداة تأثيرٍ جماهيري لا يُستهان بها... فالقصّة الصّادقة تصنع جمهوراً.