ميشال طوق

بين الدولة المؤجلة والمصير المعلّق (الجزء الأوّل)

ليست الدولة كالشمس أو المطر أو الشجر، من معطيات الطبيعة. الدولة ليست كائناً طبيعياً، بل مشروعٌ إراديٌ يصنعه الناس حين يقررون العيش سويًا تحت سلطة شرعية واحدة، تتولى تنظيم الشأن العام، وتحتكر القوة، وتضمن الحقوق. ونحن، منذ أكثر من قرن، لم ننجح في إنجاز هذا المشروع في لبنان. لا لأننا لا نستحق دولة، بل لأننا لم نبنها على أسس مشتركة، بل على توازنات قلقة، وتسويات خارجية، وخوف دائم من بعضنا البعض.



حين أُعلن قيام "دولة لبنان الكبير" سنة 1920، لم يكن ذلك تتويجاً لمشروع لبناني جامع، بل ثمرة هندسة جيوسياسية فرنسية - بريطانية، بضغط من البطريرك الحويك، وبدافع من مصالح طائفية ومندوبية استعمارية. منذ التأسيس، لم نكن أصحاب القرار، ولم نكن موحدي الرؤية، بل وُضعنا ضمن حدود واحدة، دون أن نكون شعبًا موحدًا.



ورثنا من هذا التأسيس تركيبة سكانية مذهلة، تضم الموارنة والسنّة والشيعة والدروز والروم والكاثوليك والإنجيليين …، وكل مجموعة من هذه الجماعات كانت تحمل سرديتها، وهواجسها، وأحلامها الخاصة. لم نؤسس منذ البداية "أمّة لبنانية"، بل كنا ولا نزال مجموعة طوائف تتقاسم الجغرافيا، من دون أن نتقاسم المشروع.



وحين نلنا استقلالنا سنة 1943، لم نبنِ عقدًا وطنيًا فعليًا، بل عقدًا طائفيًا مؤقتًا عُرف بـ"الميثاق الوطني"، قسّم السلطة على أساس الانتماء الديني: رئاسة الجمهورية للموارنة، رئاسة الحكومة للسنّة، ورئاسة البرلمان للشيعة. آنذاك، اعتُبر هذا التوزيع ضمانة للتوازن، لكنه سرعان ما تحوّل إلى نواة نظام طائفي هش، جعلنا جماعات خائفة ومتصارعة، تستقوي بالخارج كلما شعرت بالتهديد في الداخل.



بدل أن تحتكر الدولة الجيش، والقضاء، والضرائب، والعلاقات الخارجية كما هو مفترض، بقيت هذه الصلاحيات موزعة بين الزعامات الطائفية، وكلما واجهنا أزمة وطنية أو عسكرية، ظهرت الانقسامات بوضوح، وسقط وهم الوحدة.



وقد تجلّى هذا الفشل مرارًا في تاريخنا الحديث. انتفاضة سنة 1958 أظهرت انقسامنا بين أنصار عبد الناصر وخصومه. الحرب الأهلية بين 1975 و1990 دمّرت البلاد، ولم تنتهِ بعودة الدولة، بل باتفاق الطائف الذي ثبّت المحاصصة، بدل أن يؤسس لمواطنة متساوية. أما مشروع إلغاء الطائفية السياسية الذي نص عليه الدستور، فبقي حبرًا على ورق.



بعد الطائف، توالت المؤشرات على هشاشة ما نسميه "السلم الأهلي". في 7 أيار 2008، اجتاح حزب الله بيروت ردًا على قرارات الحكومة، وفي تشرين 2021، عادت الاشتباكات الطائفية إلى شوارع الطيونة. أدركنا من جديد أن السلم ليس سلامًا، بل هدنة قابلة للانفجار.



لم يكن فشل الدولة ناتجًا فقط عن ضعف إدارتها، بل عن غياب مشروع وطني جامع. نحن نعيش منذ عقود ضمن كيانات مذهبية متنازعة، لكل منها حلفاؤها الإقليميون، ومخاوفها، وطموحاتها الخاصة. الموارنة لجأوا إلى إسرائيل حين شعروا بالخطر الفلسطيني سنة 1976. الشيعة، المهمشون تاريخيًا والمعتدى عليهم إسرائيليًا، تحصنوا بإيران، فكان حزب الله. السنّة، الذين رأوا في النظام السوري خطرًا وجوديًا، تحالفوا مع السعودية. كل طائفة تخشى الأخرى، وكل واحدة تنتظر المظلّة الإقليمية التي تضمن أمنها وبقاءها ومشاركتها في الحكم.



وما زاد من هشاشة البنيان، هو ثقافة "لا غالب ولا مغلوب"، و"عفا الله عما مضى"، التي حالت دون بناء ذاكرة وطنية موحدة، ومنعت المحاسبة، والعدالة، والاعتراف المتبادل بالأخطاء. لم تنتصر الدولة في 1958، ولا في 1990، ولا بعد الطائف. كان الخارج دومًا هو الحكم، وهو الضامن. فكيف نبني دولة، ونحن نعيش في مناخ من الولاءات الخارجية، والخوف المتبادل في الداخل؟



اليوم، وبعد كل هذا التاريخ من الإخفاقات، نقف أمام مفترق مصيري. لا يمكننا أن نستمر في العيش داخل نظام طائفي مأزوم، ينتظر الانفجار التالي. لا بد من خيارين جذريين، ولا ثالث لهما:



أولًا: اللامركزية الموسّعة أو الفدرالية، حيث تتمتع كل منطقة بحكم ذاتي في شؤونها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الأمنية، ضمن دولة اتحادية موحدة. هذا النموذج طبّقته سويسرا بعد حروبها الداخلية في القرن التاسع عشر، وحمى التعددية، وضمن الاستقرار. نعي جيدًا أن الفدرالية تُخيف كثيرين في لبنان، وتُتهم بأنها مقدّمة للتقسيم، لكننا نرى فيها إدارة عقلانية للتنوع، بدل استمرار الفوضى المركزية.



ثانيًا: بناء مشروع وطني علماني جامع، يعيد الاعتبار لفكرة المواطنة، ويحوّل الصراع من طائفي إلى سياسي. وهذا يتطلب ثورة شاملة في التربية، والإعلام، والخطاب الديني، والنظام الانتخابي، وهيكل الأحزاب. نحتاج إلى صراع أفكار لا صراع طوائف. إلى دولة تحت راية واحدة، لا كانتونات مذهبية مقنّعة.

لكن، إن لم نسلك أحد هذين الطريقين، فالمواجهة حتمية. تاريخنا سلسلة من هدنات لا من سلامات. الطائف كان وقفًا لإطلاق النار، لا أكثر. وكل ما تبعه، من أحداث 7 أيار، إلى معارك الطيونة، إلى شلل الدولة، يؤكّد أن الأزمة قائمة، وأن الانفجار القادم مسألة وقت لا أكثر.



بعد أكثر من قرن، بات واضحًا لنا أن الصيغة اللبنانية بصورتها الحالية لا تصلح لقيام دولة حقيقية. لم ننجح في توحيد السلاح، ولا في ترسيخ السيادة، ولا في إنتاج قانون واحد للجميع. ما دام لبنان كيانًا طائفيًا موزع الولاءات، محكومًا بالخوف لا بالأمل، وبالمحاصصة لا بالمواطنة، فإن الانهيار قدرنا. وحدها اللامركزية العاقلة، أو الوحدة السياسية الوطنية، يمكن أن تفتح باب الخلاص. أما دون ذلك، فسنظل عالقين بين دولة لم تولد، وحرب لم تنتهِ.

المصير حتميّ، أما التغيير و الإصلاح، أما الصراع الفوضوي و الحرب