في وقتٍ يفترض أن تُوجَّه فيه البوصلة نحو الذي يشنّ الغارات ويهدّد المدنيين، اختار بعض رموز "الممانعة" أن يصوّبوا سهامهم نحو الإعلام. فبعد أسبوع على تقرير بثّته القناة "الصفراء" حرّض بشكل مباشر على صحيفة "نداء الوطن"، عاد وزير سابق بالأمس ليكرّر الاتهامات نفسها، مُدّعياً أن MTV و"نداء الوطن" يحرّضان ويبرّران العدوان، مطالباً بمحاسبتهما أمام القضاء.
في كل مرة يتجرأ فيها صحافي على قول الحقيقة، أو تسلك وسيلة إعلامية طريقاً مختلفاً عن المسموح به في "جمهورية الممانعة"، تنهال التهم والشتائم: "تحريض"، "خيانة"، "عمالة". إنّ التحريض هو أن نرسم للناس عدواً وهمياً في الداخل بدل أن نواجه الخطر الحقيقي، وأن نمارس إرهاباً معنوياً ضد كل من لا يصفق.
أصبح الرأي الآخر جريمة، والكلمة الصادقة استدعاءً للقضاء، لا لأنّها كاذبة، بل لأنها لا تُشبه خطاب السلاح، اعتادوا تصويب بنادقهم إلى الداخل ولا إلى الخارج.
لا يقاتلون إسرائيل بقدر ما يقاتلون الداخل.ولا يهدّدهم القصف بقدر ما تزعجهم الصحافة التي لا تصفّق. في نظرهم، من لا يكتب بما يُرضي روايتهم، يجب عزله أو محاكمته. وفي لحظة مأساة وطنية، حيث يسقط الأبرياء تحت القصف، يختار الحزب تحويل النار نحو الأقلام. بدل مساءلة من يملك قرار الحرب، يطالبون بمحاسبة من يحذّر من جرّ الضاحية وأهلها إلى الموت.
فجأة، تُصبح "نداء الوطن" وMTV هدفاً يجب إسكاته، لأنهما كشفتا حقيقة يعرفها الجميع: لا يمكن حماية المدنيين عندما تتحوّل الأحياء إلى ساحات تمركز أو مخازن. فهم لا يريدون صحافة. يريدون أداة تعبئة. يريدون إعلاماً لا يرى، لا يسأل، لا يُحاسب، بل يردّد ويُهلّل. وهذا ما لن نقدّمه، لا اليوم، ولا غداً.
قمّة الوقاحة أنهم يستنجدون بالقضاء عندما يتعلق الأمر بمقال أو تقرير، لكنهم أول من عطّل العدالة حين اقتربت من منطقتهم "المحرّمة". أي "قضاء لبناني" يُطالب به من رفض المثول أمامه في تحقيق انفجار بيروت؟ أي قانون يدافع عنه طرف أقام له دولة موازية خارج سلطة الدولة؟
إن الخطاب الذي يحتكر معنى الوطنية، ويصنّف الناس بين "مقاوم" و"عميل"، لا ينتمي إلى دولة، بل إلى منظومة تُخيفها الكلمة لأنها تكشف عوراتها. الصحافي لا يحمّل الصواريخ، ولا يطلق النار، بل يسأل من أعطى نفسه الحق بأن يقرر مصير شعب بأكمله دون مساءلة.
ولا، لا أحد يحتاج شهادة في الوطنية من طرف قرر أن الوطن يُختصر ببندقية وبزّي حزبي. الوطن ليس صوتاً واحداً.الوطن ليس "مع" الحزب أو "ضده". والوطن لا يُبنى على أنقاض الحرية، ولا يُصان بمنطق التخوين.
في بيئة الممانعة، الكلمة تُقمع، لا تُناقش. الاختلاف يُحوَّل إلى خيانة، والحياد يُعتبر جبناً، والموضوعية جريمة. لكن الحقيقة لا تموت. والقلم الذي لا يركع، لن يُكسر، مهما اشتدّت الحملة.
وإذا كان لا بدّ من المحاسبة، فلتكن شاملة. فليُحاسب من أقام مستودعات السلاح بين البيوت و اتّخذ من أرواح الناس دروعًا بشرية لحماية سلاحه، فليُحاسب من حوّل قرار الحرب إلى قرار داخلي لا يمرّ بالحكومة ولا بالدولة. فليُحاسب من عطّل كل المؤسسات، ثم طالب بتطبيق القانون على سطرٍ في جريدة.
بأي منطق يُتّهم بالعمالة مَن لا يعرف شيئًا عن أسرارهم، ولا عن مواقعهم، ولا عن بنية تنظيمهم؟ كيف يُصبح عميلاً مَن لا يُسمح له أصلاً بالاقتراب من مناطقهم أو الدخول إليها؟ أي عقل يصدّق أن شخصاً لا يملك معلومة واحدة يمكنه أن "يُبلغ" العدو بشيء لا يعرفه أصلاً؟
الواقع أن العملاء الحقيقيين لم يكونوا يوماً في الخارج، بل في الداخل، بينكم، في قلب منظومتكم. مَن سلّم المعلومات كان منكم… من بين صفوفكم… من أهل الثقة لا من خصومكم. فلا تُقنعونا بأن من يكتب من خارج أسواركم هو خائن، بينما من خانه القسم داخل صفوفكم يُغفر له أو يُخفى ملفه في الأدراج.
لسنا في جمهوريتكم حتى تُسكتونا، ولسنا في معسكرات التعبئة حتى نردّد شعاراتكم. نحن في وطن اسمه لبنان، لا يقاس بالولاء للحزب، بل بالولاء للحق والحقيقة. وإذا كنتم تخشون الكلمة الحرة، فأنتم لا تواجهون "نداء الوطن" وMTV فقط، بل تواجهون كل لبناني ما زال يرفض أن يُساق إلى القبر تحت راية الصمت.
لم نعد في جمهورية "ما يحق لكم لا يحق لغيركم"، ولا في بلد تُمنح فيه الحصانة لمن يحمل السلاح وتُسحب ممن يحمل القلم. نحن اليوم في زمن إصلاح، في دولة يجب أن تُبنى على العدالة، لا على المقاييس المزدوجة.
الصحافة ليست عدواً، بل مرآة. وإذا انكسرتم أمام المرآة، فالخلل ليس فيها، بل في وجه الواقع الذي تهربون منه.سنبقى نكتب. وسنبقى نسأل. وسنبقى نقول "لا" حين تصبح "نعم" خيانة.
ولن نسكت… لأن صمتنا هو موت هذا البلد، الحقيقي.