د. أنطوان مسرّه

شرعية الدستور اللبناني أو حروب لبنان المستدامة!

يظهر الانكباب التاريخي الجدّيّ بشأن حروب لبنان المتعدّدة الجنسيات، بخاصة في السنوات 1975-1990، أنّ السجال الدستوري في لبنان، أيّاً كانت تبريراته، كان وقوداً أيديولوجياً لتغذية النزاع والحروب بالوكالة وبأشكال وصيغ متعدّدة توقظ موروثات مرضية في علم النفس التاريخي.


1. حروب بالوكالة خلف مقولة "النظام": ينجرف قانونيون، غالباً عن حسن نيّة، في التداول حول ما يوصف "بالنظام" بدون توضيح إذا كان الخلل يكمن في نص الدستور، أم في التطبيق، أم في خطاب السوق؟

بعد ميثاق الطائف سنة 1989 والتعديلات الدستورية سنة 1990 انجرف مثقفون بدون خبرة وقانونيون في تحليل وثيقة الطائف والتغيير التي أحدثتها متجاهلين، خلافاً لعقلانية واضعي الميثاق، طبيعة النظام الدستوري اللبناني ومبادئه التأسيسية وثوابته. صاغ اللبنانيون أكثر من اثنتي عشرة وثيقة وفاق وطني على المستوى الرسمي لم تحقق وقف إطلاق النار لأنه بالإضافة إلى الوفاق الداخلي كان يتطلب الواقع اللبناني المتأزم وفاقاً داخلياً وإقليمياً. هذا ما حصل في معاهدة Utrecht (1713) بعد حروب ممتدة وبالوكالة حيث قال أحد الدبلوماسيين للهولنديين: "سنوقع السلم لكم وعندكم وبدونكم"! وهذا ما حمل غسان تويني بعد كتابه: حروب من أجل الآخرين، على القول بعد ميثاق الطائف: وسلم من أجل الآخرين! بعد عشر سنوات من وثيقة الوفاق الوطني - الطائف في سلسلة مقابلات شاركت فيها، أسف غسان تويني لاستمرارية سجالات وذهنية لم تتعظ.


أدرك بالعمق حافظ الأسد إمكانات استمرارية نزاع داخلي لبناني وبالوكالة في ربط "إعادة تمركز الجيش السوري في لبنان" بالإصلاحات الدستورية والطائفية واللاطائفية...، لأن اللبنانيين مبرمجون على هذه النمطية. أورد عباقرة ميثاق الطائف موضوع "الطائفية" "والطائفية السياسية" والمعالجة في سياق منهجية علمية في المادة 95 في إنشاء "هيئة وطنية" من اختصاصيين على نمط لجنة Bernard Stasi في فرنسا حول العلمانية (2003)، ولجنة Taylor-Bouchard في كندا حول الاندماج الاجتماعي (2020)، ولجان عديدة في الهند. إنها هيئة بحثية لوضع دراسة علمية تفصيلية وتطبيقية ومعيارية ومتدرجة، ربما في فترة زمنية لا تتخطى الستة أشهر، على نمط لجان عديدة في شؤون مالية واقتصادية وإدارية وتربوية. وينجرف اليوم قانونيون في سجالات حول "قانون" تأسيس هذه الهيئة التي هي أساساً هيئة علمية بحثية تخطيطية، وليست إطلاقاً مجلساً دستورياً رديفاً.


2. "الوراقون" في السنوات 1975-1990 ووقود النزاع: بسبب استحالة نجاح انقلاب عسكري في لبنان يحظى بتأييد شعبي يعتمد منافقون الانقلاب على الدستور خلف مقولات "ميثاقية" ووفاق و "ثغرات" وتفسير... مع بركة قانونيين ومثقفين بدون خبرة وغالباً عن حسن نيّة. طوال كل سنوات الحروب المتعدّدة الجنسيات في لبنان انتشرت ظاهرة "الوراقين"، حسب تعبير وضاح شراره، أي إعداد أوراق دستورية إصلاحية كانت غالباً وقوداً لإضفاء طابع محض أهلي على حرب داخلية مركّبة.


ليس لبنان، بسبب حروبه الداخلية وبالوكالة، وطناً مستقراً! ولن يتحوّل إلى وطن مستقر إذا استمرّت سجالات في تعديلات دستورية، وتشكيك في نهائية أسس البنيان الدستوري اللبناني. لا تعود السببية حصراً إلى واقعه الجغرافي في جوار صهيوني عدائي وجوار عربي قيد التحوّل الديمقراطي. تعود السببية، العميقة والمستمرة والنمطية، إلى انعدام حدّ أدنى في الثقافة الدستورية لبنانياً انطلاقاً من الاختبار والمعاناة والعقلانية البراغماتية.

3. حروب لبنان الدائمة! لبنان في حالة حروب داخلية دائمة وبالوكالة في حال انعدام شرعية بنيانه الدستوري في ثوابته ومفهوم الشرعية بالذات légitimité التي تتميّز عن القانونية légalité. تعنى الشرعية إدراك تاريخية وصوابية البنيان الدستوري، واقعياً واختبارياً، وانعدام البديل، بخاصة أنه تتوفر مجالات التغيير من خلال الخضوع للمعايير الناظمة في نص الدستور بالذات. ينبع الخطر الأكبر على استقرار لبنان وشرعيته الكيانية من ثلاثة أنواع من التوجّهات النابعة من كتّاب ومثقفين بدون خبرة وقانونيين وأكاديميين:


- أيديولوجية العصرنة والبناء القومي.


- الاغتراب الثقافي من خلال مقارنة لبنان بمجتمعات أخرى بدلاً من المقارنة مع أكثر من أربعين دولة في عالم اليوم هي تعددية في بنيانها الديني والثقافي.


- جهل الدراسات المقارنة منذ سبعينيات القرن الماضي حول الأنظمة البرلمانية التعددية وسياقاتها الخاصة في الانتظام والتطوير.


كلما أراد أحد الأكاديميين دراسة موضوع ينكب على "النظام" والنقد والشتائم...! ألا توجد في لبنان قضايا جوهرية في الاقتصاد والصناعة والمال العام والبلديات والنقابات والتربية...؟ يفتقر لبنان غالباً إلى رؤية شمولية في التغيير انطلاقاً من طبيعته الذاتية وتكوينه وجواره العربي. ولا يتوفر وعي لدى قانونيين ودستوريين وأيديولوجيين أن لبنان، بدون تجذّر بنيانه الدستوري وشرعية المعايير الناظمة، هو مهدّد بحروب دائمة كما أدركه كتّاب عديدون أجانب توغّلوا في ذهنيات لبنانية مريضة:

Jonathan Randal, La guerre de mille ans jusqu’au dernier chrétien, jusqu’au dernier marchand, la tragédie du Liban, Grasset, 1964.

Jean-Marie Quéméner, Liban : La guerre sans fin, Plon, 2017.



***

ما ورد في مقدّمة الدستور اللبناني: "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه" لا يعني فقط شمولية جغرافيته وتكوينه السكاني، بل مجمل بنائه الدستوري بالذات الذي اختبر وأنجز في حين يستمرّ لبنانيون، بدون وعي ولا إدراك وبصيغ تبدو بريئة، في تعميم المقولة الصهيونية أساساً: "لبنان خطأ تاريخي وجغرافي"!


اندلعت الحروب المتعدّدة الجنسيات في لبنان بعد اتفاقية القاهرة سنة 1969 مترافقة بتعبئة نزاعية حول الإصلاح والتوازن والصلاحيات. ثم عقدت اتفاقية قاهرة متجددة في 6/2/2006 مع تعبئة نزاعية حول أحجام وحصص وحقوق مسيحيين وثلث وتعطيل وميثاقية وميثاق الطائف...

هل ينتهي الخداع بعد حرب 2024 في سبيل استعادة الدولة وسمو الدستور؟ ليست المقاربة دفاعاً عمّا يوصف "بالصيغة"، بل مقاومة الخداع واللاعقلانية والإنكار وذهنية لبنانية مرضية وانعدام الذاكرة!



عضو المجلس الدستوري، 2009-2019