زائدة الكنج الدندشي

رحلة موسيقية عبر العوالم:

هتاف خوري يؤلّف بين الأصالة والمعاصرة

المؤلّف الموسيقي هتاف خوري

الموسيقى هي لغة عالمية تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية، وتجمع بين الناس من مختلف الخلفيات والاهتمامات. إنها فن يعبّر عن المشاعر والأفكار، ويخلق تجارب فريدة ومؤثرة. في هذا السياق، يأتي دور الموسيقيين والمؤلفين الذين يبتكرون أعمالاً موسيقية تعكس رؤيتهم الفنية وتجربتهم الشخصية، وتحفر اسمهم على كل عمل أنجزوه.


في حديث لـ "نداء الوطن" مع المؤلف والباحث الموسيقي الدكتور هُتاف خوري حول بداية مسيرته الموسيقية، يقول: "كل مسيرة فنّية تعتمد على أشياء متعددة منها الجوّ العام في البيت، والصدفة، والمثابرة أو القناعة بهذا الشيء. وفي كلّ الحالات صبّت هذه المعايير في طريقي أن أكون مؤلفاً موسيقيّاً. فالوالد كان كاتباً وباحثاً ومحبّاً للموسيقى، والصدفة كانت لقاء والدي بأحد أصدقائه الذي يمتلك محلاً لبيع الآلات الموسيقية، فأرسل لنا آلة البيانو دون شروط مالية، أي يدفع الوالد ثمن الآلة عندما يتيّسر المال... وآخر المعايير هي قناعتي ومحبّتي للموسيقى، جعلتني أمشي ضد التيار العام في البلاد العربية، لأن دراسة الموسيقى هو حكم الشخص على نفسه بالإعدام. وإني أقرّ أنّ هذه المعايير لم تتحقق لو لم أفز بالجائزة الأولى في التأليف الموسيقي التي نظمها "اتحاد الشباب الديمقراطي" في طرابلس، والتي فتحت لي المجال للذهاب ودراسة الموسيقى في الاتحاد السوفياتي وفي ما بعد في أوكرانيا".


يشرح خوري عن الموسيقى التي أثرت به في بداياته موضحاً: "في البدء، كنت متأثراً بموسيقيي الكلاسيكيّة الألمانية (بيتهوفن)، والرومانسية الأوروبية (شوبان، ليست، شومان) والقوميّة الروسية (كورساكوف وموسورغسكي) وفي ما بعد (رخمانينوف)، ومن ثمّ موسيقى القوميّات العالميّة حتى بدايات موسيقى القرن العشرين".


وبالحديث عن الأعمال الموسيقية التي قدّمها خوري وما هو أفضلها يقول: "لا أسمح لنفسي أن أفضّل عملاً عن الآخر، فكأنك تفضّل بين ولد من أولادك والآخر. فكل عمل له حالته النفسية، وتجربة خاصة تختلف بين زمن وآخر. وهذا ما يميز أعمالي وجعلها حاضرة في أكثر من 55 بلداً".


وكما لكلّ موسيقيّ أسلوبه الذي تطوّر عبر الأزمان، يشرح خوري أنّ "الكلّ يبدأ في تقليد مؤلفين أحببناهم (وهذا ليس عيباً)، ومع الوقت تتحول التجارب الموسيقية الهارمونية، اللحنيّة، الإيقاعية والأوركسترالية إلى خاصة عند المؤلف، وهذه الخاصة لا تظهر إلا مع الوقت والمعرفة والإبداع فتصبح أسلوباً خاصّاً. فعندما تُعزف أعمالي، يعرف الكثير من المستمعين أنّ هذا هو هتاف خوري من خلال التوزيع الأوركسترالي، واستعمال ألحان وإيقاعات من عالمنا والجرأة في تقديمها".


من زاوية أخرى وعن التحدّيات الموسيقيّة، يقول خوري إنها "موجودة في كل زمان ومكان. ولكن قد يصعب على مؤلّف من العالم الثالث أن تُعزف أعماله في العالم، ليس لعدم الجودة وإنما لغياب المعلوماتية الغربية عمّا يحدث ثقافياً في بلادنا، فيظنّون أننا متصحّرين، وعندما تعزف أعمالنا في ما بعد، يتفاجؤون. في الحقيقة إنّ دُور الثقافة العالمية في بلداننا تتعامل معنا بخفاء مطلق ولا يقومون بواجبهم بإعلام دولهم عما يحدث ثقافياً في البلد. وأقولها صراحة، فقط المثابرة والجودة التأليفية عندي أذابت مع الوقت هذه المشاكل".


وككلّ موسيقي يُلهِمهُ حسّه وذائقته، يرى خوري أنّ "الإلهام هو وليدة اللحظة، واللحظة هي من يعطي ولادة الفكرة والموضوع. نحن نعيش في تخبّطات مختلفة، وأنا أبحث بينها عما يناسبني وقريب من القلب والمنفعة الثقافية. وإن بقي شيء للتاريخ، فهو مَن عمِل حرّاً في أفكاره وكان متصالحاً مع ذاته ومحيطها. والتاريخ البعيد لا يكذب".


يستكمل خوري حديثه عن المدارس الموسيقية مؤكداً أنّ "المدرسة الموسيقية اللبنانية هي أفضل المدارس في محيطها. وقد صدّر لبنان إلى العالم كبار العازفين والمؤلفين، منهم من حصل على جوائز عالمية، ومنهم من كُرِّم من قِبَل دُوَل كبرى".


وبالحديث عن مستقبل الموسيقى في لبنان، يرى خوري أنّ "المشكلة في لبنان هي بوضعه الاقتصادي الذي لا يسمح في التمادي ثقافياً، فالثقافة ليست ترفيهاً إنما رسالة فكرية واجتماعية تساعد المجتمع على تخطّي المحن والتصالح في ما بينها في سلام. أما العالم العربي فله خصوصية أخرى مع أنّ محاولات جادة جرت في بلدان مختلفة كمصر وسوريا سابقاً.


ختاماً، تبقى الموسيقى لغة الرّوح، وتعبيراً عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية بطريقة فريدة ومؤثرة، وتبقى في الذاكرة كتعبير صادق عن تجارب الحياة، وعن كل نوتة أسهم المؤلف بولادتها لتحفظها أجيال من بعده.