أثبتت الضربات الإسرائيلية الموجعة على إيران أن نظام الملالي وقع في فخ "لعنة الضربة الأولى" التي نالت من جمال عبد الناصر، وصدام حسين، وبشار الأسد، ومن "حزب الله"، درة تاج امبراطورية أذرعها الطويلة، وجعلتهم تاريخاً وعبرة.
القاسم المشترك بينهم أنهم ينتمون إلى مدرسة خطاب "صناعة الوهم"، الذي ظهر عقب زوال الخلافة الإسلامية، وازدهر غداة النكبة الفلسطينية ونشوء الكيان الإسرائيلي، وأنتج "جبهة الصمود والتصدي" التي تناسل منها "محور الممانعة". مدرسة تقفز فوق التوازنات الاستراتيجية والمعادلات الجيوسياسية والوقائع الصلبة، وتزدري الإصلاح والتنمية، وتسخّف الحريات والثقافة، لتروّج العنتريات كـ "مورفين للأمة" بمختلف تخيلاتها عربية أم إسلامية أم شيعية، حتى تقع فريسة الضربة الأولى.
أحدث الشواهد تتمثل بفضيحة فساد بملايين الدولارات طالت إمام جمعة طهران آية الله كاظم صديقي، رئيس هيئة "الأمر بالمعروف"، أبرز أدوات الدعاية الأيديولوجية، التي تبطش بالنساء بسبب الحجاب، مع أبنائه وشركاء بارزين، بما يعكس مدى التكلس البنيوي العميق، حيث يلتهم القادة مع رجال الدين أقوات الشعب "المحرّمة"، ويحضونهم على التضحية والصبر لدخول الجنة.
بمعزل عن تطورات الصراع وسياقاته، فإن تفاصيل الضربة الأولى كشفت مدى العقم السياسي الذي يتسم به نظام "آيات الله"، حيث أعماه "الخدْر الأيديولوجي" عن فك شيفرات إشارات استراتيجية، تتمثل باغتيال رئيس المكتب السياسي لـ "حماس" إسماعيل هنية في طهران، وقبله قاسم سليماني ومحسن فخري زاده، والتفجيرات "الغامضة" التي طالت منشآت نووية، والأهم عملية "بيت العنكبوت" الأوكرانية في العمق الاستراتيجي الروسي.
فيما كان المفاوض الإيراني يعد أوراقه لجولة مفاوضات يستهلك فيها المزيد من الوقت، انبلج فجر الجمعة عن عار يصعب محوه. شبكات الموساد والاستخبارات تتحرك بحرية في قلب طهران وجوارها، وتصفي النخب العسكرية والنووية، وتدمر مصانع الباليستي، وتخرج الدفاعات الجوية من الخدمة، كي تعزف الطائرات الإسرائيلية ألحان الموت في سماء كان الظن أنها عصية، وتطيح بالكثير من الأراجيف.
يبرّر نظام الملالي ما حصل بالدعم الأميركي وظلاله الأوروبية، لكنه هو نفسه عقد تفاهمات مع أميركا إثر أحداث 11 أيلول 2001، أتاحت له دخول العراق على ظهر دباباتها، واليمن على ظهر ميليشيات الحوثيين التي أخرجها جو بايدن من لائحة العقوبات، وسوريا على متن تحالف عريض أميركي – روسي، جعل إسرائيل تغضّ الطرف عن اقترابه منها قرب المنطقة العازلة، وحتى داخل قطاع غزة عبر تحالفها مع "حماس".
وبينما كان نظام "آيات الله" يفرض تشيعه السياسي الشديد التطرّف بالحديد والنار بدعم أميركي، كانت الدولة العبرية تنسج لسنوات فخ الضربة الأولى الساحقة، عبر تطوير قدراتها، وتجميع سيل من المعلومات الثمينة تصل إلى مخدع خامنئي، وتتحيّن اللحظة المناسبة. فكان "طوفان الأقصى" هو الحدث الذي أجادت توظيف آثاره للحصول على ضوء أخضر لقلب المعادلات وتغيير وجه الشرق الأوسط. أقفل نظام الملالي أذنيه وناظريْه، وأعشى بصيرته، وغرق في غوغائية "رمي إسرائيل في البحر" و"تدميرها في 7 دقائق ونصف" وسواها من الخطب العصماء التي لا تتسق مع بديهيات السياسة، ولم يتعلم درس ولده البار "حزب الله".
قبل أشهر قليلة، كان حسن نصر الله يتباهى بإيقاف إسرائيل على "رجل ونصف"، فصُعق بلعنة الضربة الأولى حينما انفجرت صفقة "البايجر" التي سار إليها "الحزب" بماله وقراره، دون أن يُتاح له الخروج من آثارها، حيث أكملت إسرائيل حلقاتها بالقضاء على نخبة "الرضوان" دفعة واحدة، وعلى نصر الله نفسه، وخليفته من بعده، فأدخلت "الحزب" في تيه أفقده الرشد لتكمل آخر حلقات اللعنة بقصف قواعد قوته، وإجباره على توقيع "اتفاق الإذعان".
والحال أن لعنة الضربة الأولى تعد لازمة في تاريخنا المعاصر، وكان أول ضحاياها وأشهرهم جمال عبد الناصر. عام 1956 شنت إسرائيل، بالتحالف مع فرنسا وبريطانيا، ما عُرف بـ "العدوان الثلاثي"، ودمّرت الجيش المصري، ووصلت إلى "قناة السويس" بسرعة قياسية. لكن عبد الناصر نجا وقتها من هذه اللعنة بـ "إسناد" أميركي – سوفياتي، حوّل خسارته العسكرية إلى نصر سياسي مهّد طريق زعامته العربية. ودفعت الدولة العبرية ثمن خطأ نادر في قراءة التوازنات العالمية، وكان "العدوان الثلاثي" لحظة التحوّل التي أخرجت بريطانيا وفرنسا من مركز القرار الدولي إلى هوامشه.
وبعدما انصرف إلى مدّ نفوذه خارج الجغرافيا المصرية، بخطاب يدغدغ خيال الشعوب، وأغرق جيشه في تضاريس اليمن القبلية، وقع عبد الناصر في فخ لعنة الضربة الأولى، حينما استفاق صبيحة 5 حزيران 1967 على ضربة إسرائيلية أخرجت سلاح الطيران من الخدمة، فصار جيشه مكشوفاً بلا غطاء جوي، وتراجع بشكل فوضوي من غزة إلى الضفة الغربية لـ "قناة السويس"، وخسر العرب القدس، والمسلمون "المسجد الأقصى"، قبلتهم الأولى، في الوقت الذي كانوا فيه يحتفلون بدخول فلسطين "فاتحين" على وقع تعليقات أحمد سعيد المضلّلة.
ذهب عبد الناصر إلى الفخّ بقدميه، بتهيئته ظروف الحروب دون استعداد عسكري أو سياسي جدي، وحينما وقعت الواقعة بررّها بأنه كان يحارب أميركا، التي حالت خطوطها الحمر دون أن تطأ سنابك خيل إسرائيل القاهرة وأزهرها، وكانت هي من نصرته قبل 11 عاماً.
طالت اللعنة الجبهة السورية، لكن وزير الدفاع حافظ الأسد، استثمرها لتمهيد صعوده السريع في عوالم صناعة الوهم والخطاب الخشبي الذي استولد "جبهة الصمود والتصدي"، عبر إغداق رتب "استثنائية" على ضباط الجيش المهزوم، مثلما ظهر في فيديو انتشر منذ أيام بكثافة على منصات التواصل الاجتماعي، مظللاً بتعليق يختصر الأزمة العربية – الإسلامية المشتركة منذ أواخر أيام الدولة العثمانية "أن نخسر جولة هذا لا يهم، المهم أن يقلّد كل منا وسام النصر إلى الأبد". أي أن النصر دائم "إلى الأبد" كما حافظ الأسد، أما الخسائر السياسية والجغرافية والاستراتيجية فهي أعراض جانبية. لذلك كان من البديهي أن يقع وريثه بشار فريسة اللعنة نفسها، حيث ظنّ أن عرشه لن يزول بعدما أقبلت الدول عليه، فوقع في فخ الضربة الأولى في حلب، وصار حبيس شقة في موسكو.
كما طالت اللعنة شريك "جبهة الصمود والتصدي"، الرئيس العراقي صدام حسين، الذي دخل الكويت منتشياً بنصره الحربي على الملالي وظنّ "أنه لن يقدر عليه أحد"، فسقط في فخ الضربة الأولى التي شتتت جيشه في الصحراء. أعاد الكرة عام 2003، فبينما كان محمد سعيد الصحاف يبيع الناس وهم غرق "العلوج" في مستنقعات البصرة، كانت القوات الأميركية تدخل "ساحة الفردوس" في بغداد، فاختفى النظام وكأنه لم يكن.