الياس دمّر

من أعماق المُحيط إلى قمّة هوليوود

هل لا يزال فيلم "JAWS" مُخيفًا بعد خمسين عامًا؟

يُصادف هذا الأسبوع مرور نصف قرن على انطلاق الفيلم الذي غيَّر السّينما إلى الأبد: "JAWS". في صيف عام 1975، تحديدًا مساء 20 حزيران، وبعد شهرَين وأسبوع على اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان، كان مواطنوه على موعدٍ مع انفجار من نوعٍ آخر. فحين كانت صالات السّينما تعجّ بأفلام الجرائم والدّراما الاجتماعية التي ميّزت عقد سبعينات القرن العشرين، انفجرت ظاهرة سينمائية غيَّرت ملامح الصّناعة بأكملها، فكان فيلم "JAWS" للمُخرج الشّاب آنذاك Steven Spielberg. خمسون عامًا مضت على إطلاق ذلك العمل الأيقوني، ولا يزال تأثيره حاضرًا، لا فقط في ثقافة الرُّعب، بل في شكل التّسويق السّينمائي وإرساء أهميّة العروض الصّيفيّة للأفلام الجماهيريّة أيضًا.



في جوهره، "JAWS" ليس فيلم وحش تقليدي، بل هو درس في البناء التّصاعدي للتوتّر، حيث اعتمد مُخرجه ستيفن سبيلبرغ، رغم قلّة خبرته آنذاك، على قوة الغياب البصري أكثر من الحضور المُباشر للقرش. ذلك لأنَّ النموذج الآلي للقرش لم يكن يعمل كما ينبغي، ما اضطر المُخرج إلى تحويل الأزمة الإنتاجيّة إلى أداةٍ فنيّة. ولم يظهر القرش بشكلٍ واضح إلا بعد مرور أكثر من ساعة على بداية الفيلم، لكننا شعرنا بالرعب منه منذ الدقائق الأولى.

هنا تتجلّى عبقرية الموسيقى التصويريّة لـلمؤلّف الأسطوري John Williams، والتي لم تُشكّل مُجرَّد خلفيّة داعمة، بل صارت كيانًا مُرعبًا قائمًا بذاته. نَغمتان مُتكرّرتان – بطيئتان ثم تتسارعان – كفيلتان بإثارة الذّعر في قلب أي مشاهد. لقد صاغ وليامز صوت الخطر الخفي، ما جعله أحد أكثر الألحان ترويعًا وتأثيرًا في تاريخ السينما.



ماذا تبقّى من المواجهة؟

بعيدًا من الجانب التقني، يحمل "JAWS" قراءة وجوديّة عميقة. البحر، كما في أدب Herman Melville أو Joseph Conrad، ليس مجرّد فضاء للرُّعب بل مرآة للقلق البشري. في بلدة صغيرة تعتمد على السّياحة كمورد أساسي، تبرز مُعضلة الخيار بين السّلامة العامة والرّبح الاقتصادي. ونتعرَّف على شخصية رئيس الشّرطة Brody (يلعب دوره Roy Scheider) التي تُمثّل ضمير المجتمع، بينما يُجسّد العُمدة مصالح رأس المال الجشعة.

أمّا الصّراع الثلاثي على متن القارب بين Brody، وعالِم الأحياء البحرية Hooper (يلعب دوره Richard Dreyfuss)، والصّيّاد البحري Quint (يؤدّي دوره Robert Shaw)، فهو يرسم بانوراما طبقيّة وثقافيّة داخل المُجتمع الأميركي: العلم، البيروقراطية، والخبرة القديمة. كلّ منهم يواجه القرش – أو بالأحرى رمز الخوف الأعمى – على طريقته، في ما يُمكن اعتباره استعارة عن الإنسان المعاصر في مواجهة قوى لا يستطيع فهمها أو السّيطرة عليها.



تغيير قواعد النّجاح

قبل "JAWS"، لم تكن أفلام الصّيف هي الأفلام الرّائجة أو ذات الميزانيّات الضّخمة. لكنَّ فيلم سبيلبرغ، الذي افتُتح عرضه على نطاقٍ واسع في أكثر من 400 صالة حول العالم – في سابقة تاريخيّة حينها – قلب المعادلة. وبتسويقه الذكي، من الملصق الدعائي البسيط إلى الإعلانات التلفزيونيّة، مهّد الطريق لصيغة ما بات يُعرف لاحقًا بتسمية "Summer Blockbuster"، مُتيحًا لفكرة أنَّ الفيلم يُمكن أن يكون حدثًا جماهيريًا ويُغيّر خارطة الأرباح والأستوديوات خلال فصل الصّيف.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت هوليوود تُصمّم معظم أفلامها الكبرى وفق نموذج "JAWS": الإيقاع المُتصاعد، البطل الفردي والعدو الغامض، ضمانًا لنجاح التّجربة الجماعيّة في قاعة العرض. وبذلك ثبَّت سبيلبرغ عبر تحفته السّينمائيّة "JAWS" مفهوم نجاح أفلام "Blockbuster" خلال موسم الصّيف، والتي باتت تحمل إنتاجًا ضخمًا لتأثيرٍ أضخم على شُبَّاك التذاكر!



لماذا لا يزال الفيلم مُفزعًا؟

على الرّغم من التقدُّم الهائل في المؤثّرات البصريّة وتقنيّات الصّوت، لا تزال مشاهد فيلم "JAWS" تحتفظ بقوّتها المُرعبة. فالرّعب الحقيقي لا يأتي من شكل القرش، بل من انتظاره. هذا ما لم تفهمه معظم أجزاء السّلسلة التي أُنتجت لاحقًا، ولا العديد من أفلام الوحوش الرقميّة اللّاحقة.

في "JAWS"، الخطر لا يسكن فقط تحت الماء، بل يسكن في عقولنا. وبعد خمسين عامًا، لا يزال الفيلم مثالًا نادرًا على توازنٍ مُذهلٍ بين السّينما كَفَنّ والسّينما كصناعة. أفلام قليلة تستطيع أن تقول الشيء نفسه! فإضافةً إلى نَيله أفضل التّحليلات النّقديّة، حاز الفيلم على ثلاث جوائز "أوسكار" من أصل أربعة ترشيحات (أفضل صوت، أفضل مونتاج، وأفضل موسيقى). وبميزانيّةٍ بلغت قرابة 7 ملايين دولار، حقَّق الفيلم أرباحًا عالميّة قاربت 480 مليون دولار، متفوّقًا على النّجاح العالمي لفيلمَي "The Godfather" عام (1972)، و "The Exorcist" عام (1973).



سبيلبرغ تعريفًا للخلود السّينمائي

عبقريّة ستيفن سبيلبرغ لا تتجلّى فقط في تحويله العوائق التقنيّة إلى أدواتٍ فنيّة، أو في تحكّمه المُذهل بالتوتّر مُستخدمًا البحر ككيان درامي فلسفي غامض. بل تكمن في جرأته في إيقاف الفيلم - لمدة تسع دقائق - للحصول على مشهدٍ محوري يُعرّف عن سبب كره الصّياد البحري Quint لأسماك القرش. حينها أدرك سبيلبرغ أنّه الوقت المناسب لمنح الشّخصيّات، وبالتالي المُشاهد، استراحة بعد اللّيلة الأولى للأحداث، لكنَّه بعد ذلك أضاف شيئًا آخر، عُنصرًا أساسيًّا جعل من Quint شخصيةً لا تُنسى، من خلال حبكةٍ استثنائيّة أيضًا. حيث يبدأ المشهد بطريقة مُضحكة للغاية، ثمَّ يتحوّل تدريجيًّا إلى بحثٍ درامي وجودي ثقيل. وما زال هذا المشهد، حتّى اليوم، مُدهشاً للتأمل في التّأثيرات النّفسيّة التي يتركها عالقة في ذهن المُشاهد.

وبلسان المُخرج الفذ Steven Soderbergh الذي شاهد "JAWS" لأوّل مرَّة بعمر 12 سنة: "الفيلم هو ورشة عمل حقيقيّة لصانع أفلام شاب وحول أنواع العقبات التي يواجهها. إذا كنت تنوي إنتاج فيلم، فهذا هو المثال الأكثر تطرّفًا، كما هو تجسيد لفكرة عدم اليأس أو الاستسلام أبدًا".

في هذا الفيلم وُلدت سينما سبيلبرغ، لا لكَوْنه مُجرّد مُخرج موهوب، بل كمهندس مشاعر بشريّة يعرف كيف ينسج الرّهبة، لحظة بلحظة. وبعد أكثر من 30 فيلمًا، أصبحت أفلامه موسوعةً تُدرَّس في روعة تفاصيلها. وبالتالي لم يكن "JAWS" مُجرَّد فيلم ناجح، بل انعطافة سينمائيّة بكل المقاييس. علّم صانعي الأفلام كيف يُبنى الرُّعب من اللامرئي، كيف يتحوّل الخوف الفردي إلى ظاهرة جماعيّة وكيف يُمكن لفيلم أن يُغيّر ليس فقط ما نراه، بل كيف نراه. وعلى الرغم من مرور خمسين عامًا، لا يزال هذا الفيلم يسبح في أعماق الوعي الجماعي، ككابوسٍ لا يشيخ، وكدرسٍ لا يُنسى من الرُّعب الذي لا يصدأ.


يُمكنكم مُشاهدة "JAWS" عبر موقع "Peacock" الذي يعمل بواسطة خدمة "VPN" في لبنان، إِذ أنَّ المنصَّة ليست مُتاحة بعد في كل البلدان.