محمد علي مقلد

في نقد الثورة (1)

31 تشرين الأول 2020

01 : 30

جوقة مديح الثورة، وأنا منها، قالت فيها ما لم يقله "أبو نواس" في الخمرة. فاض عنها المديح المستحقّ، حتّى أنّنا سهونا أحياناً عن النقد، أو أنّ المديح جاء صريحاً ومباشراً ورسم لوحة زاهية لإنجازاتها، فيما كان يأتي النقد مُضمراً وخجولاً حتّى لا يتعكّر صفوها، فيصطاد أعداؤها في الماء العكر. لكنّ الحاجة إلى تنظيف المسار وتصويب الخلل تقتضي ولوج باب النقد الذاتي.

في أقلّ من أسبوعين، تمكّنت الثورة من تحقيق أول أهدافها، بإسقاطها حكومة سعد الحريري، فاكتسبت جرعة إضافية من الثقة بالنفس، وتباهت بإبداعاتها كثورة مبتكرة في سلسلة ثورات الربيع العربي، واستندت إلى منسوب عالٍ من إخلاص الثّوار وتفانيهم وصدقهم والتزامهم، فمنّت النفس بتنفيذ برنامجها كاملاً، وتوهّمت أنّ سقوط السلطة لن يحتاج من الوقت أكثر ممّا احتاجه سقوط الحكومة. هذا بعض من التباس في تفسير المصطلحات، حيث بات الخلط بين السلطة والدولة والحكومة جزءاً من فهم مغلوط، عملت السلطة السياسية خلال عقود على نشره وتعميمه في الوعي العام، ولم تسلم مخيلة الثوار الشابة من الوقوع في حبائله.

للمرة الثالثة، ترتكب الثورة الخطأ ذاته في تناولها مسألة التأليف والتشكيل. لم تنتبه إلى أنّ ثمار ثورة تحت سقف الدستور تحتاج من الوقت لإنضاجها، أكثر بكثير ممّا يحتاجه استلام السلطة بعد انقلاب عسكري أو ثورة مسلّحة. بل هي شغلت نفسها بالإجابة على أسئلة ليست من اختصاصها ولا من صلاحياتها، فأقحمت نفسها في اختيار الرئيس المكلّف، واختلف الرفاق على كيفية اختياره، بالتوافق أم بالاقتراع السرّي، في مؤتمر علني أم على وسائل التواصل.

في المرّة الأولى، ابتهجت الثورة مزهوّة بإنجازها وبالتفرّج على هرج ومرج في حفلة تنكّرية، انتهت فيها مسرحية التكليف والتأليف برئيس يعيا البيان، ويعجز عن التعبير عن تعداد عيوبه ومثالبه، وبحكومة من الدمى، ما أوهم الثوار بأنّ السلطة بلغت مرحلة العجز، غداة استقالته، وبأنّ أمر التكليف والتأليف بات من مهمّاتهم، وكاد ينتهي النقاش "الثوري" لتسمية أعضاء الحكومة ورئيسها إلى ما لا تُحمد عقباه، لولا توافق أهل الحكم على استنهاض مشروعهم التحاصصي. في الثالثة تراجعت الثورة إلى رفض من تنتهي إلى تسميته الإستشارات الملزمة، وأعلنت في بيان بعض مجموعاتها أنّها عازمة على إسقاط الحكم والحكومة.

لا نطلب من رفاقنا الثوار إلّا القليل من التواضع. إذا كانت ثورتنا تحت سقف الدستور، فلسنا نحنا من يُسمّي ولا من يُعيّن ولا من يمنح الثقة الدستورية. الثورة قادرة فحسب على ممارسة الضغط، وهي أبلت بلاء حسناً بل رائعاً، فأسقطت حكومات وفضحت الفساد والفاسدين، وفرضت برنامجاً للإصلاح تبنّته حكومات ومؤسسات دولية، وعطّلت الإستمرار في لعبة المحاصصة المكشوفة، ورفعت الأقنعة عن وجوه المجرمين في التحالف المافيوي الميليشيوي، فباتت قوّة يُحسب لها حساب، ولو من بعيد، في اختيار التشكيلة الحكومية وفي صوغ برنامج الإنقاذ.

من إنجازات الثورة أنّ الصراع على تشكيل الحكومة بين أجنحة السلطة لا يمكن أن يجدّد أشكاله القديمة، فقد غدا خطاب الثورة على كل شفة ولسان، حتّى عند الذين أمعنوا بانتهاك الدستور وسيادة الدولة. لذلك، يبدو أنّ الخطوة الأكثر ثورية لدى الثورة هي المضيّ وراء دعوتها الجميع إلى الإلتزام بأحكام الدستور، ودعوة الحكومة القادمة إلى تنفيذ برنامج الثورة الإصلاحي.