في لحظة فارقة من التاريخ المعاصر، يبدو أن النظام الإيراني يقف أمام مرآة انكساراته، خالياً من أوراق القوة، فاقداً للسيطرة على ما تبقى من مشروعه الإقليمي. لقد تحوّل هذا النظام، الذي لطالما تباهى بأنه "محور المقاومة"، إلى عبء على شعبه وعلى شعوب المنطقة، وإلى عباءة مهترئة من الشعارات التي لم تجلب سوى الدمار والتخلف وسنوات ضائعة من عمر الأوطان.
نظام افاضنا بشعارات زائفة على أنقاض الأمل
على مدى عقود، ادّعى النظام الإيراني أنه حامل قضايا كبرى، من "نصرة المظلومين" إلى "تحرير القدس" مروراً ب"دعم المستضعفين". لكن الواقع كشف أن هذه القضايا لم تكن سوى أدوات للاختراق، ووسائل لتبرير التدخّل في شؤون الدول الأخرى، وتسخير شعوب بأكملها لخدمة مشروع طائفي أمني ضيق لا علاقة له بالكرامة ولا بالعدالة.
من لبنان إلى العراق، ومن سوريا إلى اليمن، وُلدت حروب لم يكن الناس بحاجة إليها، واستُخدمت طوائف وأقليات كأدوات، وقُيّدت الحكومات وابتُزت الشعوب. كانت النتيجة سلسلة دول مدمّرة، اقتصادات منهارة، ومجتمعات تعيش بلا أفق. كلّ ذلك تحت شعار "المقاومة"، التي تحوّلت إلى مقاومة الحياة نفسها.
إنها عقيدة الغطرسة... والجهل. نعم، النظام الإيراني لم يتراجع يوماً، ليس لأنه على حق، بل لأنه يرى التراجع ضعفاً. يعيش في عقلية السبعينات، ويحكم من خلال منطق الحرس الثوري، حيث السلاح هو الحل، والصوت العالي هو البديل عن المنطق، والتضحية بالشعوب أمر مشروع إذا كان يخدم العقيدة.
لكن الغطرسة لا تبني دولة، ولا تحمي مصالح، ولا تطعم شعباً. كلّ ما فعلته هو مراكمة الكراهية، وتسعير الطائفية، وتمديد عمر الأنظمة الفاشلة بالدم. واليوم، بعدما وصلت هذه المقامرة إلى نهايتها، لا يزال النظام عاجزاً عن الاعتراف بالهزيمة، مفضّلاً الاصطدام بجدار الواقع على أن ينقذ ما يمكن إنقاذه.
الخوف على لبنان من أن يلقى نفس المصير في ما لو استعادة الفئة نفسها السيطرة الكاملة عليه.
من المؤسف أن نرى في لبنان من يسير على النهج ذاته. فهناك من يعتقد أن التصلّب في المواقف، والتحدّي الأجوف، والمواجهة المفتوحة مع الداخل والخارج هي طريق الانتصار. لا مراجعة، لا نقد ذاتي، لا حساب للعواقب. فقط عناد، وعنجهية، وضياع.
ما يحصل في لبنان اليوم هو تكرار مأسَوي لتجربة إيران. دولة مشلولة، قرار مرتهن، وشعب يهاجر أو ينتظر الانفجار الكبير. والسبب؟ نفس العقلية التي ترى في التسوية خيانة، وفي الاعتدال ضعفاً، وفي الدولة عدواً يجب تقويضه من الداخل.
هل نتعلّم؟ أم نكرر الموت؟
السؤال الأصعب الآن ليس متى تنهار هذه المشاريع، بل، هل نتعلم شيئاً بعد الانهيار؟ هل يمكن أن يظهر وعي جديد، يفضّل الكرامة على الشعارات، والتنمية على السلاح، والحياة على التضحيات المجانية؟ أم أن من يقودون هذا المسار المأسَوي لن يتراجعوا حتى ينهار كلّ شيء فوق رؤوسهم ورؤوس من تبعوهم؟
الزمن لا يرحم. والشعوب، مهما صبرت، لا تبقى أسيرة الأكاذيب إلى الأبد. والنهايات الحتمية لا تتأخّر حين تعمى العقول ويصمّ التعصّب الآذان.
نحن امام لحظة الحقيقة. إن ما فعله النظام الإيراني، وما لا يزال يفعله عبر وكلائه، ليس مقاومة، بل مقاومة التقدّم، مقاومة الإصلاح، مقاومة الحياة الطبيعية. لقد اختطفوا القضية الفلسطينية، شوّهوا معنى السيادة، وحوّلوا الدين إلى أداة سياسية قمعية. والآن، بعد أن انكشفت الساحة، وانهارت أوراق اللعبة، لا يبقى أمامهم سوى خيارين: التسليم بالواقع، أو السقوط المدوي.
فهل يسود العقل يوماً؟ أم سيُكتب تاريخ هذه المنطقة بأيدٍ ملوثة بالعناد والدماء... إلى الأبد؟
لبنان أولاً، لبنان فقط.