نجوى المكاري

رفع سقوف السحوبات النقدية: تمهيد تقني لإعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني

لم يكن قرار مصرف لبنان الأخير برفع سقف السحوبات النقدية في تعميمَيْه الشهيرَيْن (158 و166) مجرّد خطوة تقنية لمراعاة ضغوط المودعين أو تحسين القدرة الشرائية للمواطن، كما أوحت بذلك الصياغات الرسمية. فخلف هذا الإجراء النقدي–الإداري، تقبع معالم تحوّل أعمق، يُنذر بإعادة رسم مشهد القطاع المصرفي في لبنان، ويؤشّر إلى مرحلة تمهيدية للتخلّص من الحسابات الصغيرة، كجزء من عملية إعادة الهيكلة المقبلة التي طال انتظارها.


فالزيادة التي طالت سقف السحب النقدي بالدولار (من 500 إلى 800 دولار في التعميم 158، ومن 250 إلى 400 دولار في التعميم 166)، تبدو في ظاهرها استجابة لمطالب اجتماعية وضغوط معيشية، إلا أنها في الواقع قد تعكس نية خفية لتصفية تدريجية للحسابات التي لا تتعدّى قيمتها بضعة آلاف من الدولارات. فمن الناحية الحسابية، يمكن تصفية معظم الحسابات المصرفية الصغيرة (وهي تُشكّل الشريحة الأوسع من مجموع الحسابات) تلقائيًا خلال أقل من عام بفعل هذه السقوف الجديدة، ومن دون إصدار قرارات مباشرة بإغلاقها، إذ يُدفع أصحابها إلى سحب أرصدتهم بالكامل.


وإذا ما قرأنا هذا التطور في ضوء التصريحات المتكرّرة من مصرفيين ومسؤولين لبنانيين، التي تتحدث عن “ضرورة تقليص حجم القطاع المصرفي”، فإننا أمام خريطة طريق غير معلنة، تبدأ من تخفيف الضغط الناتج عن الحسابات الصغيرة، وصولًا إلى هيكلة أكثر جذرية تشمل تقليص عدد المصارف نفسها.


وقد أكدت العديد من الدراسات، بما في ذلك تقارير صندوق النقد الدولي، أن عدد المصارف التجارية العاملة في لبنان (أكثر من 60 مصرفًا) لا يتناسب مع حجم الاقتصاد الوطني الذي تقلّص بشكل حاد منذ عام 2019. ويشير خبراء إلى أن العدد الطبيعي يجب أن يتراوح بين 10 و15 مصرفًا فقط، تعمل ضمن معايير حوكمة أكثر صرامة، وتلتزم برأسمال حقيقي لا وهمي. ومن هنا، فإن خطوة تصفية الحسابات الصغيرة توازيها خطوات غير معلنة لدفع المصارف غير القادرة على الإيفاء بالتزاماتها إلى الاندماج أو الانسحاب.


وفي هذا السياق، يُلاحظ أن مصرف لبنان لم يربط تمديد العمل بالتعميمَيْن بأي التزام زمني قصير، بل حدّده بسنة قابلة للتجديد، ما يوحي بأن هذه السياسة جزء من تصوّر استراتيجي طويل الأمد، وليست مجرّد قرار ظرفي. كما أن التلميح في متن التعميمَيْن إلى “ضرورة إصدار قانون يعالج أوضاع المودعين بشكل شامل”، يدلّ على وجود قرار مركزي بتصفية ملفات معينة تدريجيًا قبل صدور أي قانون لتوزيع الخسائر.


من جهة أخرى، تُسهِّل تصفية الحسابات الصغيرة على السلطات المصرفية تقليص حجم “الكتلة النقدية الافتراضية” المودعة في النظام المصرفي، ما يُخفف من عبء إعادة الرسملة. فكلّما تراجعت الكتلة الدائنة، قلّت الحاجة إلى رساميل تغطّي الخسائر، وهو أمر أساسي في أي عملية إعادة هيكلة ناجحة.


كما لا يمكن فصل هذا القرار عن النقاش المستمر بشأن مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، الذي لا يزال يراوح مكانه في البرلمان، بسبب تضارب المصالح وحسابات النفوذ. ومع ذلك، تستبق السلطة النقدية إقرار هذا القانون بخطوات تنفيذية على الأرض، تدريجية ولكن ذات مفعول حاسم، أبرزها ما نشهده اليوم من تحرير جزئي للسيولة وسحب تلقائي للحسابات الصغيرة.


من زاوية أخرى، قد تحمل هذه السياسة أثرًا مزدوجًا: فهي في الظاهر تحرّر المودعين من القيود، لكنها في العمق تسلبهم عنصر القوة التفاوضية في أي قانون مقبل لتوزيع الخسائر. إذ ما إن يسحب هؤلاء أموالهم بالكامل، حتى يغيب صوتهم عن طاولة الحلول، تاركين الساحة للمودعين الكبار والمصارف ذات النفوذ للتفاوض حول حصصهم في توزيع الخسائر.


والأخطر من ذلك، أن هذا المسار قد يُتيح لاحقًا إقرار قانون إعادة هيكلة يتضمّن إعفاءات ضريبية أو تنظيمية للمصارف التي تنجح في تصفية حساباتها الصغيرة والاندماج، تحت شعارات من قبيل “مكافأة الالتزام” و”تشجيع الانضباط المالي”، ما يُعدّ نوعًا من المكافأة الضمنية على تقليص التزاماتها تجاه الجمهور الأوسع.


في المحصّلة، ما نشهده اليوم ليس مجرّد تعديل في سقف السحوبات، بل تمهيد عملي لإعادة هيكلة صامتة، تبدأ من الحسابات الصغيرة ولا تنتهي إلا بتقليص دراماتيكي لعدد المصارف، في بلد لم يَعُد يحتمل قطاعًا مصرفيًا ضخمًا يفتقر إلى الثقة، ويعجز عن أداء دوره الأساسي في تمويل الاقتصاد.