أصبح تكتيك "الأسبوعَين" الذي يستخدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب وسيلة خطابية معروفة، تهدف إلى كسب الوقت وتعكس نهج الإدارة الحذر، الذي يوازن بين الدبلوماسية والاستعداد للتحرّك. وفي سياق التصعيد بين إسرائيل وإيران، أرجأ ترامب الضربة العسكرية، مفضلًا منح الدبلوماسية فرصة أخيرة. هذا التريّث يندرج ضمن استراتيجية إبقاء الخيارات مفتوحة، ما قد يتيح للوقائع أن "تحلّ نفسها" أو تتّجه نحو التصعيد.
لكن ما يلفت الانتباه، رغم غبار المعركة، هو تغطية الحرب في وسائل الإعلام الليبرالية الأميركية، التي ظلّت إلى حدّ كبير متمسّكة برواية تُصوّر ترامب كمُحرّك أساسي لعدم الاستقرار، وإيران كدولة محاصَرة لا تفعل سوى الاستجابة للتهديدات أو الاستفزازات الخارجية، بدلًا من اعتبارها الطرف المُبادر بالصراع عبر سعيها إلى تنفيذ أجندة عدوانية. هذا التناول الإعلامي يكشف خللًا أعمق: أولوية الانحياز الأيديولوجي على حساب فهم الواقع الجيوسياسي.
بالفعل، ركّز الإعلام الليبرالي الأميركي على الاستفزازات الأميركية والإسرائيلية، مع تأطير سلوك طهران على أنه تصعيدٌ اضطراري لا أكثر. وغالبًا ما وُصف إنذار ترامب بالموافقة على "اتفاق استسلام" أو مواجهة تصعيد عسكري وشيك، بأنه استعراضي ومُتهوّر، بدلًا من التعامل معه كموقف قسري جاد مدعوم بتهديد موثوق باستخدام القوة.
في المقابل، صُوّر النظام الإيراني، ضمنًا أو صراحة، على أنه هشّ أو على شفا الانهيار، من دون الاعتراف بقدرته المُثبتة على التحمّل في وجه ضغوط داخلية وخارجية متراكمة.
كما روّجت هذه الوسائل لما يُعرف بـ "التسريبات"، أو عبر "مصادر" (بالطبع غير محدّدة)، التي تُبرز تردّد ترامب في اتخاذ أي قرار ضد إيران. في المقابل، حرصت التغطية الإعلامية على تصوير إيران كلاعب عقلاني ومتّزن، رغم سلوكها التصعيدي، مع التشديد على "ضبط النفس الاستراتيجي" أو "الردود المحسوبة" لطهران على التصعيد.
الجامع بين هذه الروايات هو تركيزها على الارتجال والتهوّر والتردّد لدى ترامب، بما يخدم صورة نمطية مسبقة، بدلًا من تقديم تحليل واقعي للخيارات الفعلية المطروحة. في الواقع، يُخفي هذا التأطير الإعلامي حقيقة أن النظام الإيراني لا يزال متماسكًا، محافظًا على بنيته السلطوية الأساسية. فـ "الحرس الثوري" موحّد وفعّال، والمتشدّدون يُسيطرون على مفاصل الحكم. حتى ملف خلافة المرشد يُدار بسلاسة داخلية، من دون مؤشرات إلى انقسام داخل النخبة أو تصدّع مؤسّسي، بل إن النظام يُوظّف الحرب لتعزيز قبضته وإسكات المعارضة. فبالنسبة إلى طهران، لا تُشكّل الحرب تهديدًا وجوديًا، بل أداة ضمن استراتيجية البقاء.
باختصار، أدّى التشويه التحليلي في التغطية الليبرالية للأزمة إلى اختزال إنذار ترامب لإيران في كونه مجرّد أداء استعراضي، أو في أفضل الأحوال، إعادة إنتاج لخطاب المحافظين الجدد. وقد تجاهلت هذه المعالجة طبيعته كخطوة تصعيدية محسوبة ضمن سياسة الإشارات القسريّة، فضلًا عن تجاوزها للحقائق البنيوية في الداخل الإيراني والتقليل من قدرة النظام على الصمود، رغم الحروب والعزلة الاقتصادية والانتفاضات.
هذا التأطير الإعلامي، المبني على خلفيات أيديولوجية مناهضة للعسكرية ومعادية لترامب، يغفل الواقع الاستراتيجي الأعمق: فالجمهورية الإسلامية ليست نظامًا هشًا بل استبداديًا راسخًا في مواجهة طويلة مع أميركا وحلفائها. والمفارقة أن الإعلام الليبرالي، برفضه الاعتراف بفعالية الدبلوماسية القسرية، يُعزّز الديناميكيات التي يدّعي معارضتها. وتجاهله لمنطق الضغط يُسيء تقدير نظام يستمدّ شرعيته من سردية المقاومة، ما يُضلّل الرأي العام وصُنّاع القرار في لحظة ذات تداعيات استراتيجية خطرة.
أخيراً، يكشف تجاهل وسائل الإعلام الليبرالية دبلوماسية ترامب القسريّة وصلابة النظام الإيراني عن تحيّز عميق في تقييم ومقاربة السياسة الدولية، خصوصًا في ظلّ إدارة جمهورية، في حين تنظر إلى الأنظمة المُعادية للولايات المتحدة من زاوية إنسانية أو مناهضة للاستعمار. بالتالي، من الطبيعي أن يعجز هذا الإطار التحليلي عن تفسير الواقع القائم، كما لا يكفي أن تعلن هذه الوسائل أي خبر لنأخذه على ظاهره أو نردّده كحقيقة مطلقة.