في عالم التصميم المعاصر، تبرز أسماء قليلة تجمع بين الجذور العميقة في الحِرَف التقليديّة والجرأة الطليعيّة في التفكير الجماليّ. من بين هذه الأسماء، يلمع الثنائي، الأب والابن، بيار وسيدريك كوكجيان، اللذان رسّخا حضورهما في المشهد الفني والتصميمي العالميّ من خلال رؤيتهما الفريدة التي تدمج الفنّ، التصميم الصناعيّ، والنحت في تجربة متعدّدة الطبقات. انطلاقًا من ستوديو "SINCE Fine Art" في جنيف، يحمل هذا الثنائي رؤية ثقافيّة تتجاوز الشكل لتطرح أسئلة جوهريّة عن الارتباط، الهوية، والحداثة.
وُلد بيار كوكجيان في العام 1962 وسيدريك في العام 1985، كلاهما في بيروت، المدينة التي عرفت تقاطع الحضارات والاضطرابات السياسيّة. مع اندلاع الحرب اللبنانية (1975)، هاجرت العائلة إلى أوروبا. في نهاية السبعينات، سافر بيار إلى ألمانيا، حيث درس تصميم المجوهرات وعلم الأحجار الكريمة، مكتسبًا أساسًا تقنيًّا صارمًا وحسًّا بصريًّا دقيقًا. وعبر عمله في ورشات مرموقة في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا خلال الثمانينات والتسعينات، كوَّن مسارًا خاصًّا تميّز بالتجريبيّة. كما أنّ إطلاقه علامة الساعات "deLaCour" في العام 2002، شكّل نقطة تحوّل عزّزت سمعته كمصمّم متمرّد على السائد.
أما سيدريك، فنشأ في جنيف مدينة الفن والسياسة العالميّة، وحصل على بكالوريوس في الاقتصاد والعلاقات الدولية. غير أنّ شغفه بالإبداع قاده لاحقًا إلى دراسة التصميم في جنيف وبانكوك، حيث نهل من ثقافات بصريّة متنوّعة. بدأ مسيرته في تصميم المجوهرات، ثم انتقل تدريجيًّا إلى فضاءات أوسع: النحت، والتصميم الصناعيّ، والمشاريع العامة. هذه الخلفية المتنوّعة، الممتدّة من سويسرا إلى آسيا والشرق الأوسط، انعكست في أعماله التي لا تلتزم بنمط واحد، بل تستند إلى رؤية كونيّة شاملة.
الحرفية والتجريب
في مقابلات مختلفة، يصرّح بيار وسيدريك بأنهما "مصمِّمان أكثر من كونهما فنّانَين"، في إشارة إلى انحيازهما للتطبيق العمليّ، من دون التخلّي عن الطموح الجماليّ. تتمحور فلسفتهما حول ثلاثيّة الحرفية، التجريب، والمفهوم. يتعاملان مع المواد ككائنات حيّة تحمل في بنيتها إمكانيّات رمزية وجمالية.
تُظهر أعمالهما رموزًا متكرّرة – أبرزها السلاسل – التي تُفهم عندهما كرمز لـ "الترابط" و "المرونة". في عالم يسوده الانقسام والتشظّي، تُقدِّم أعمالهما دعوة للتأمل في الروابط الإنسانيّة. المواد المستخدمة، من الفولاذ المقاوِم للصدأ إلى الرغوة الصّلبة والنيون والراتنج الكريستاليّ، تُوظَّف بشكلٍ استفزازيّ يخلخل التوقّعات التقليدية. في هذا السياق، يمكن قراءة منحوتة "جيود" (2022)، بعناقيدها البلّوريّة الزاهية، كتعبير عن سعيهما لكسر الحدود بين الفنون الجميلة والتصميم الصناعيّ.
شعار ستوديو "SINCE" يكثّف هذه الرؤية، "مبدعون صناعيون ما بعد حداثيّين (...) في بحث دائم عن أشكال ومواد جديدة". إنها هوية مفتوحة تسعى للتجريب من دون الوقوع في الفوضى، وتستلهم من التقاليد من دون أن تستعبدها.
مشاريع ومحطات بارزة
نجح الثنائي كوكجيان في تجسيد رؤيتهما عبر عدد من المشاريع التي حظيت باهتمام نقديّ وجماهيريّ. نذكر من أبرزها:
- "دلو الفقّاعات Bubble Bucket (2019)": عمل من توقيع بيار، أعاد فيه تخيُّل دلو الثلج كمنحوتة تفاعلية. مصنوع من الراتنج الشفاف على شكل فقّاعات تخرج من كأس شامبانيا، يزاوج هذا العمل بين المرح والتقنية. فاز بجائزة "A' Design Award" (فئة الحديد، 2018)، كاعترافٍ بفرادته الشكلية.
- منحوتات "Liaisons": صمّمها سيدريك، وهي سلسلة من المنحوتات المبنيّة على شكل سلاسل، مستلهمة من الرمزية الاجتماعية للترابط. عُرضت نسخ راتنجية منها في متجر "بولغاري" بجنيف، في حين تُوّجت النسخة الضخمة منها (بارتفاع 3 أمتار، فولاذ مقاوم للصدأ) بـ "جائزة الفن العام" في كانتون كولوني عام 2020، حيث تُعرض في مساحة عامة كعلامة فنّية تحاكي الجمهور يوميًا.
- "سلسلة الضوء Chaîne de Lumière (2025)": مشروع حديث نُصِب في بلدة بكفيّا المتنيّة، في مبادرة تستلهم من "الكوميديا الإلهية" لدانتي، وتجسّد سبع حلقات تمثّل مراحل التنوير، تدمج المنحوتة المعدن بالرخام، وتقدّم تجربة تأمّليّة تتجاوز الملموس لتلمس الفلسفي.
أعمال وشراكات استراتيجية
تمتدّ إبداعات كوكجيان لتشمل:
- "Sprout": منحوتة فولاذية بطول 2.5 متر، تنبض بحيوية عضوية في وسط مادي صارم (2018).
- "IRIS": تمثالان رخاميّان يمثّلان أوراق لعب ملكيّة، يزنان أكثر من 850 كيلوغرامًا، يقدّمان تعليقًا ساخرًا على السلطة والتقاليد (2018).
- "Link": حلقة لانهائيّة منحوتة من كتلة رخام واحدة. عمل تأمّلي يتحدّث عن اللانهاية والارتباط الأبدي (2018).
- "Lost in Power": مجموعة منحوتات راتنجية على شكل غالونات وقود، مزيّنة برموز من البورسلين، تعكس بعمق مسألة الاستهلاك والطاقة والهيمنة (2021).
أما من حيث الشراكات، فشارك بيار وسيدريك في تعاونات مع علامات بارزة، مثل "LVMH بولغاري"، خلال بيناليات النحت في جنيف، إلى جانب تعاونهما مع البلديات والمؤسّسات الثقافية في سويسرا ولبنان.
معارض وتقدير
لم تبقَ أعمال بيار وسيدريك حبيسة الستوديو، بل جابت صالات العرض والمساحات العامة من بيروت إلى جنيف، ومن بكفيّا في لبنان إلى غشتاد في سويسرا. فمعرض "Crossing Dimensions" الذي أقيم في غشتاد في العام 2022 شكّل لحظة محوريّة، جمع بين أعمال النحت والتصميم الصناعي في تجربة حسّيّة متعدّدة الأبعاد.
نال الثنائي جوائز مرموقة منها:
- "جائزة A' Design Award" عن عمل "Bubble Bucket".
- "جائزة الفن العام" لسيدريك عن منحوتة "Liaison". كما حصد بيار جوائز إضافية في اليابان، وسويسرا، وإيطاليا، تقديرًا لتصاميمه الطليعية.
تجسيد ملموس لعالم رمزي
في زمن يشهد طغيان التكنولوجيا وسرعة التحوّل، يقدّم بيار وسيدريك كوكجيان بوصلة فنية مختلفة. إنهما لا يطرحان فقط تصاميم جميلة أو أفكارًا نظرية، بل يُجسّدان عالمًا بصريًّا مشغولًا بعناية، يغوص في المواد ليفتح أبوابًا رمزية حول الوجود، التواصل، والهوية.
مسيرتهما مثال على كيف يمكن للمنفى والشتات أن يتحوّلا إلى مصدر للإلهام، وكيف يمكن للتصميم أن يكون وسيلة لفهم الذات والآخر. في كل قطعة ينحتانها، ينبض قلب ثقافي عالميّ: من بيروت إلى جنيف، من المجوهرات الدقيقة إلى المنحوتات الضخمة، ومن الحرف التقليدية إلى حدود الفنّ المفاهيميّ، إنها تجربة تصميمية مشغولة جدًّا، نعم – لكنها أيضًا محبوكة بعناية وعمق، كتلك السلسلة التي لا تنفصم.
سلسلة الضوء في بكفيّا في آذار 2025، قدّم بيار وسيدريك كوكجيان واحدًا من أكثر أعمالهما عمقًا ورمزية، من خلال منحوتة "سلسلة الضوء - Chaîne de Lumière" التي نُصِبت في بلدة بكفيّا اللبنانية. يأتي هذا العمل كتحيّة مزدوجة: إلى الجذور اللبنانيّة التي ينتمي إليها المصمّمان، وإلى الفلسفة الإنسانية التي تطبع أعمالهما. تتشكّل المنحوتة من سبع حلقات معدنيّة ضخمة، تتدرّج في الارتفاع والانحناء، وتمتزج مع رخام طبيعي منحوت بعناية، لتكوّن مسارًا بصريًّا وروحيًّا يرمز إلى رحلة التنوير والتحوّل الداخلي. استُلهمت فكرة السبع حلقات من عمل دانتي الملحميّ "الكوميديا الإلهية"، إذ تمثّل كلّ حلقة مرحلة من التطهير، الارتقاء، والوصول إلى الانسجام. نُصبت المنحوتة في موقع طبيعيّ مفتوح وسط بكفيّا، ما يمنح الزوّار فرصة للتفاعل الجسديّ والتأمليّ مع العمل. تصميم الحلقات لا يوجّه النظر فقط إلى الداخل والخارج، بل يدعو المتأمّل إلى التفكير في العلاقات الإنسانية ومسارات الحياة، ويعبّر عن مزيج من الفلسفة المسيحية والصوفية والشرقية، ما يعكس الخلفيّة المتعدّدة الثقافات للمصمِّمَين. بـ "سلسلة الضوء"، يعيد بيار وسيدريك صوغ علاقة الناس بالفن والمكان والزمان. هذا العمل يجسّد في آنٍ معًا ذاكرة شخصية، وتجربة كونيّة. |