وائل خير

حيث الحريات... هناك الوطن

كالكثير من اللبنانيين اتصل بي ابني المقيم في الخارج للتمنيات بمناسبة عيد الأب. ما الغرابة في اتصال اجتماعي ليستحق أن يكون موضوع مقال؟


من مآسي لبنان هجرة شبانه وشاباته الذي، إن لم تتدارك لأدّت إلى زوال وطننا كما عرفناه. يختصر الموضوع بسؤالين: لماذا الهجرة؟ وما نتائجها؟


لا صعوبة في الإجابة على السؤال الأول، كان انتقال الإنسان من موطنه إلى الخارج في الماضي استثناءً ليصبح منذ أقل من قرنين قاعدة تكاد لا تستني شعبًا. الزراعة ربطت الانسان بالأرض فيما اقتصر الانتشار على شعوب تجارية أو محاربة في أواسط آسيا وشمال أوروبا والقبائل الصحراوية.


التطورات المذهلة في المواصلات والاتصالات وسهولة السفر ومتطلبات الدراسة واغتنام فرص العمل، والحمايات القانونية وحقوق الانسان، ذللت ما كان صعبًا، بل ومستحيلًا، ليصبح السفر اجراءً عاديًا لا بل معيارًا للإبداع والرقي.


هذه كلها من أسباب سفر شبابنا وشاباتنا ولا مآخذ البتة عليها. لكنّ لسفر اللبنانيين بعدًا كارثيًا نجده في الاجابة على الشطر الثاني من السؤال: ما هي نتائج الهجرة؟


إن كان وراء الهجرة كسب مالي أو فكري أو تحقيق أحلام ترفع قدر الانسانية ثم العودة بثمارها ونتائجها إلى الوطن الأم لكانت محل ثناء وتقدير. لكن الخسارة الفادحة لأي وطن هي عدم عودة أبنائه.


المهاجر بانتمائه إلى وطن جديد يكسب الكثير، مساواة أمام القانون ومساءلة لا تستثني أحدًا اضافة إلى دخل وضمانات اجتماعية تليق به كإنسان. لكنه بالمقابل، خاصة في أميركا، غالبًا ما يتعرض لثقافة مدمرة غمرت الجامعات والرأي العام قوامها إعادة النظر بكل شيء بما فيه ثوابت بيولوجية وثقافية.


الوضع الأمثل هو الهجرة واكتساب فوائدها، ثم العودة إلى الوطن ملقحًا إياه بايجابيات اكتسبها. المأساة في لبنان هي قوة عناصر الدفع وضعف عنصر الجذب.


الفقر والبؤس والحروب المستمرة وعدم الثقة بالمستقبل والاضطهاد، خاصة الديني وما انبثق وينبثق منه من تقيّة وذميّة، كانت وراء هجرة كثيرين من لبنان واستقرارهم في بيئات قامت على قيم تعزز مكانة الإنسان.


أنا على تمام المعرفة بمقدار تعلق ابني بوطنه وسعيه, مع زوجته، لتأصيل عائلتهما في لبنان. لكن، لندع المشاعر جانبًا ونلتفت إلى الواقع، ما هي ذكريات ابني وعائلته عن لبنان؟


كنت محظوظًا بأن العقد والنصف الأولين من حياتي كانا طبيعيين. أما ابني والأجيال التي لحقت به ما عرفت سوى الحروب والتدمير والمجازر والفرار واللجوء.


كان ابني دون المراهقة عندما انفجرت الأوضاع صيف 1989. فهربت بعائلتي إلى مكان آمن. تكرر الوضع وساءت الأوضاع الأمنية في ربيع 2025، فاتصلت بمنال زوجة ابني وعرضت عليها نقلها والعائلة إلى مكان اقامتي. هو مثل على نمط حياة ملؤها التوتر والحروب والتربص والهرب يتبعها هدوء فترة لتعود الدورة من جديد.


ما السبيل إلى وقف هذه الدوامة الجهنمية وعودة ابنائنا وضمان ما هو حق كل انسان بعيش مستقر وكريم بحماية القانون وحقوق الإنسان؟


الحل يكون بتوفر أمرين: التشخيص الموضوعي لأسباب العلة، وتوفر الشروط الذاتية، أي استجابة اللبنانيين لقبول حل لها.


الظروف الموضوعية لمآسي لبنان.


تعيش على رقعة لبنان المحدودة المساحة شعوب متعددة تنتمي إلى حضارات متنوعة لا يجمع بينها سوى اللغة العربية وطمع كل حضارة بالامتداد على حساب الأخرى خاصة من انتمى لدين مخالف. هم يختلفون في مفهوم الزواج والمرأة والأولاد ومناهج الدراسة المثلى والكثير غيرها. ثم هناك علة مدمرة إضافية. انتماء هذه الحضارات إلى ولاءات إقليمية واستعدادها لجعل لبنان ساحة لتصفية حسابات أوليائها.


يبقى السؤال. ألم تكن هذه الشروخ واضحة زمن إعلان دولة لبنان الكبير؟


يجيب البعض بـ "نعم" وهم قلة، لكن الكثرة كانت تدين بأمرين خرجا اليوم من التداول: المدى الحيوي، والتفوق الحضاري. المتفوقون يتمتعون بحق التمدد على أراضي الأضعف لتأمين مدى حيويًا لبلدهم. يضاف إليها وهم امتد منذ عصر الأنوار ليكتشف العالم حديثًا خطأه وهو دور التعليم بتكييف الانسان وفق إرادة الحاكم. تبدّلت القناعات مؤخرًا. شرط نجاح الدول هو "الانسجام" الذي يسقط شرط "المدى الحيوي". أما التنوع فحله ليس بـ "الدمج" بل بخيار دستوري هو الفدرالية وربما ما بعدها. خير مثال هو سنغافورة التي تبلغ مساحتها 10 بالمئة من مساحة لبنان من دون أن يحول فقدانها المدى الحيوي ازدهارها، فيما لم يمنع تنوعها الحضاري الذي يتعدى ما في لبنان، دون تبوئها مركزًا في الصدارة الاقتصادية لعالمنا.


ألخلاصة. الحل عبّر عنه يومًا البطريرك نصر الله صفير ببلاغة ورؤيا. "نحن مع العيش المشترك القائم على الحرية، فان خيّرنا بين العيش المشترك والحرية، لاخترنا الحرية".