جورج الأسد

المَصالِح بيد المُصالِح!

بين 13 و 25 حزيران 2025 عاش العالم اثني عشر يومًا في ترقّب مثير لمجريات حرب إسرائيل و إيران، وهو لا يزال لغاية اليوم يتأرجح حائرًا بين التقارير والتصريحات المتضاربة عن ما أفضت اليه تلك الحرب من نتيجة، وماذا حلّ بمخزون اليورانيوم المخصَّب في منشأة فوردو التي استهدفتها عملية "مطرقة منتصف الليل" الجوية الأميركية.



انها بلا شك مواضيع شائكة ُتشغل بال الرأي العام في العالم أجمع، ولا يبدو أن الحبر سيجف عن الكتابة بشأنها في أي وقت قريب، قبل أن ينجلي مصير البرنامج النووي الإيراني بالوقائع والأرقام والأبعاد.



للمساهمة في الخروج من هذا التيه، من المفيد العودة إلى القواعد الأساسية للممارسات السياسية، وخاصة لدى القوى العظمى. يأتي في أولها القول الشهير "في السياسة لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، إنما مصالح دائمة" الذي يعود إلى اللورد بالمرستون الذي تبوأ منصب رئيس وزراء بريطانيا العظمى لفترات طويلة خلال القرن التاسع عشر، والذي عمل تشرشل بموجبه في القرن العشرين عندما فسّر تحالفه مع "عدو العالم الرأسمالي والحر" الزعيم السوفياتي ستالين في الحرب العالمية الثانية باستعداده أن يتحالف حتى مع الشيطان لدحر هتلر و ألمانيا النازية.


إذا قاربنا من هذا المنظور مجريات ما حدث في حرب الاثني عشر يومًا وما آلت اليه الأمور من بعدها، فهذا يساعد في تظهير الصورة بشكل أوضح، كما يلي.



بادئ ذي بدء، لا بد من التذكير بأن هناك محطات تاريخية شهدت تعاونًا مصلحيًا بين جمهورية إيران الإسلامية و"الشيطان الأكبر" كما هي تدعو الولايات المتحدة. وهي سترد في السرد اللاحق.



بحكم الأمر الواقع، فان مايسترو اللعبة في الحرب الإقليمية الأخيرة كان الولايات المتحدة بلا منازع. ولقد بيّن الرئيس ترامب بأقواله وأفعاله حقيقة أن الولايات المتحدة هي التي تقود إسرائيل، وذلك عكس الفكرة السائدة المغروسة في عقولنا في العالم العربي منذ عقود. وبهذا، فإنه بالرغم من مراعاة أميركا لمصالح إسرائيل دائماً وأبداً، الا أن الرئيس ترامب أوضح جلياً أن تلك الرعاية تتوقّف عند حدود المصالح الأميركية الجيو-استراتيجية العليا، وهي تمثّلت في هذه الحالة في عدم السماح لانزلاق إيران في أية فوضى قد تتأتى عن تغيير النظام فجائياً، ما كان سيسمح لروسيا والصين الاصطياد في ذلك الماء العكر و بالتالي تخريب الفرصة على الولايات المتحدة بأن تعقد منذ الان صفقة مصالح كبرى في موارد ايران الشاسعة وفي موقعها الاستراتيجي البالغ الأهمية، لا سيما أن الهدف الأميركي الأساس يتمثّل بكبح جماح توسّع الصين في تلك البقعة من العالم وصدّ طموحاتها المستتِرة للوصول إلى الموارد الطبيعية فيها والتأثير على خطوط توريد الطاقة. وكان ملفتاً في تصاريح الرئيس ترامب الأولى بعد اقراره وقف اطلاق النار بين إسرائيل وايران قوله أن الصين ستستطيع شراء النفط من ايران، وكأنه يؤكّد على أن "الأمر لي" في فتح حنفية البترول والغاز الإيرانية للصين ولغير الصين، وبأي مقدار.



كما بيّن تصريح الرئيس ترامب، الذي وصفته مواقع مؤثرة من الصحافة الغربية بالمذهل من حيث غرابته، أثناء جلسته مع أمين عام حلف شمال الأطلسي، والذي شبّه فيه الصراع بين إسرائيل وايران "بخناقة بين ولدين" توجّب عليه أن يتدخل لفضّها وفرض المُصالحة بينهما، وكأن أميركا تلمّح بأنها تعتبر إيران بمثابة ولد من أولادها هي مستعدة للنأي بالأذى عنه، بشروطها طبعاً.



في هذا السياق لا بد أن نستذكر أن نشوء الثورة الإيرانية حصل في زمن الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي حيث كانت الولايات المتحدة تقابل "المد الشيوعي" في أي بلد من العالم بضراوة شديدة، وذلك عن طريق تغيير الأنظمة بالانقلابات العسكرية أو باثارة الثورات.



مثالا على ذلك، تم الاتيان بطغمة من الكولونيلات لحكم اليونان عام 1967 بعد أن أفرزت الانتخابات البرلمانية الديمقراطية، و التي جرت في ظل الحكم الملكي، فوزاً أكثرياً للأحزاب اليسارية، ما نتج عنه قمع ضارٍ للحريات العامة طيلة سبع سنوات كانت ثقيلة في بلد مهد الديمقراطية وجمهورية أفلاطون. زد على ذلك الانقلاب الدموي في تشيلي عام 1973 الذي أطاح بالرئيس سلفادور الليندي المنتخب ديمقراطيًا وأدّى الى قتله أثناء مشاركته في الدفاع عن اقتحام الدبّابات للقصر الجمهوري.



استطراداً، في إيران السبعينات من القرن الماضي كان الفكر الشيوعي يزداد انتشاراً ولم تنجح أجهزة الشاه القمعية في الحد منه. وحسب تحليلات تاريخية رصينة، فإن أميركا قابلت ذلك المد الشيوعي في إيران بتقوية التيار الديني على أساس مناهضة الفكر المادي-الالحادي في العقيدة الماركسية، ومن ثم ساندته إلى حد إزاحة حليفها الشاه وصولاً الى استلام الإمام الخميني الحكم في أوائل شباط 1979.



ردّ الاتحاد السوفياتي بغزو أفغانستان في كانون الأول من ذلك العام 1979 فجابهته أميركا بدورها بخلق حركة "المجاهدين" في أفغانستان مدعومةً لاحقاً بتنظيم "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن.



ولعل الذاكرة لا تزال طريّة في ما يخصُ فضيحة "ايران-كونترا" في أميركا رونالد ريغان، حيث انكشف أن الولايات المتحدة باعت إيران أسلحة طيلة الحرب العراقية-الايرانية (1980-1988) عن طريق قنوات ملتوية مخالفة للقوانين الأميركية، وموُلت من أثمانها ميليشيا "الكونترا" اليمينية في نيكاراغوا لكي تمارس حرب العصابات ضد النظام الماركسي للبلاد.


أخيراً وليس آخرا، فإن هنري كيسينجر، مهندس السياسة الخارجية الأميركية الاستراتيجية والطويلة المدى، كان أول من أطلق، ومنذ ثمانينات القرن العشرين، فكرة وجوب الوصول إلى "الصفقة الكبرى" مع إيران (The Grand Bargain) وظلُ ينادي بها مع تحديثات ملائمة في الفترات التي واكبت اطلاق إيران لبرنامجها النووي وأعقبته.



إضافة إلى ما سبق، فإن هناك مبدأً ثانياً مهماً في الممارسات السياسية، وهو يتعلّق بفن التفاوض وعقد الصفقات (المولَع به الرئيس ترامب)، الا وهو أن تترك دائماً للطرف الآخر هامشاً معيّناً يسمح له بتسجيل ظَفَرٍ ما يصون كرامته و يحفظ ماء وجهه وصورته لدى فريقه أو جمهوره، أكان ذلك على المستوى الحسّي أو المعنوي، أو بخليط "مُدوزن" من كليهما. وبموجب ذلك، فان طرفي التفاوض يخرجان بالحصيلة التي يُعرَّف عنها بالفوز-فوز (WIN-WIN) ولو بنسب متفاوتة.



عسى أن تكون هذه المقالة قد أسهمت باضاءة اضافية على ما زخرت به التحليلات المعنية في الأسابيع السابقة. لا بد أنه سيأتينا المزيد منها في الأسابيع اللاحقة، حيث أن النتيجة المبهَمة لحينه للصراع الذي انقضى قد تكون قد حيكت قصداُ، وذلك عملاً بالقاعدة السياسية الثالثة التي غالباً ما تُتَّبع، وهي"الغموض البنّاء" (constructive ambiguity) المقرون "بالانكار المعقول" (plausible deniability) والتي تصُب في مصلحة خروج الجميع بصورة WIN-WIN-WIN في الصراع الثلاثي الذي شهدناه.



 صاحب رأي سيادي مستقل