في لحظةٍ تتقاطع فيها لغة النار مع لغة السياسة، ظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بحلّة جديدة أثارت اهتمام المراقبين. لم تكن الصور التي التقطت له خلال العشاء الرسمي الذي جمع رؤساء دول الناتو في هولندا عادية. الرجل الذي اعتاد العالم رؤيته ببزة زيتية قتالية منذ اندلاع الحرب، ارتدى هذه المرة بدلة رسمية داكنة، دون رموز عسكرية، وبسلوك أقل صدامية، وأكثر دبلوماسية.
هذا الظهور "المدني" لزيلينسكي، الذي أتى على هامش مؤتمر الناتو في لاهاي، لم يكن مجرد تغيير في اللباس. بل قرأه البعض كمؤشر على بداية مرحلة جديدة: مرحلة الانتقال من إدارة الحرب، إلى السعي الجاد لإنهائها. وربما لم يكن ذلك منفصلًا عن المواقف الجديدة التي ظهرت لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي تحدّث مؤخراً للمرة الأولى عن ضرورة "إنهاء الحرب"، بعد سلسلة لقاءات مع زيلينسكي، آخرها في الفاتيكان ثم لاهاي.
ومع أن الجبهات الأوكرانية لا تزال تنزف تحت وقع القصف الروسي المتصاعد، إلا أن مشهد زيلينسكي الأخير يوحي بأن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل بدأت تدخل مرحلة الصراع على نهاية الحرب وشكل التسوية القادمة، والتي قد تُحسم كما بدأت: على طاولة الكبار.
التصعيد الدموي: خاركيف تحترق... وكييف وأوديسا تحت القصف
شهدت الجبهات الأوكرانية في الأسابيع الأخيرة تصعيدًا عسكريًا روسيًا واسع النطاق، يُعدّ من الأعنف منذ انطلاق الغزو. التركيز انصبّ على الجبهة الشمالية الشرقية، خاصة خاركيف وسومي، مع استخدام مكثف للقنابل الجوية الموجهة (FAB-500 وKAB-1500) التي تُلقى من مسافات آمنة داخل الأراضي الروسية. الضربات طالت بشكل مباشر أحياء سكنية، ومستشفيات، ومحطات كهرباء، وأدت إلى تدمير واسع في البنية التحتية، وسقوط مئات الضحايا.
في خاركيف وحدها، سُجل خلال عشرة أيام أكثر من 400 قتيل وجريح، بينهم عدد كبير من الأطفال. مدينة فوفشانسك تحولت إلى رماد بعد أن قصف الطيران الروسي مبنى سكنياً من خمسة طوابق، بينما عاشت كوبيانسك حالة شلل شامل بعد استهداف محطاتها الكهربائية والمائية.
ولم يكن الجنوب بمنأى عن النار. ففي العاصمة كييف، عادت الصواريخ لتحطّ بقوة، مستهدفة مخازن ومراكز اتصالات وأهداف استراتيجية. أما أوديسا، فتعرضت ليلة أمس لهجوم كثيف بالصواريخ والمسيّرات الانتحارية، ما أدى إلى انفجارات ضخمة في مرفأ المدينة وتدمير مخازن للحبوب ومحطة طاقة مركزية، وسط ظلام شامل غرق فيه الساحل الجنوبي.
تكتيك روسيا بات واضحًا: إنهاك المدن الكبرى وإغراق أوكرانيا في العتمة، وتحويل الأمن الغذائي والطاقة إلى ساحة حرب.
زيلينسكي وترامب: من المواجهة إلى الاحتواء... فالتقارب
قبل أشهر، وفي زيارة رسمية إلى واشنطن، جرى لقاء وصف بـ"العاصف" بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الأميركي دونالد ترامب داخل المكتب البيضاوي. اللقاء الذي نُقل أمام عدسات الإعلام، كشف بوضوح عن اختلاف حاد في وجهات النظر: ترامب كان يلمّح إلى "كلفة الحرب" ويدعو إلى مراجعة الدعم الأميركي، بينما أصرّ زيلينسكي على أن ما يحدث في أوكرانيا هو معركة تتجاوز الجغرافيا وتمسّ مصير النظام العالمي.
اللقاء ترك حينها انطباعًا مريحًا في موسكو، حيث قرأته القيادة الروسية كخطوة تعكس تصدعًا في الموقف الأميركي. لكن ما لم تحسبه روسيا، أن زيلينسكي كان يلعب بخيوط السياسة الهادئة.
بحنكة لافتة، اختار الرئيس الأوكراني أن يستوعب ترامب بدل مواجهته، مدركًا أن قوة الولايات المتحدة تكمن في شخص رئيسها، لا في التصريحات الإعلامية العابرة. خلال أشهر قليلة، التقى الرجلان مرتين بعيدًا عن الأضواء المباشرة: الأولى في الفاتيكان خلال مراسم تشييع البابا الراحل، والثانية قبل أيام في مدينة لاهاي، على هامش مؤتمر الناتو.
في اللقاءين، تغيّرت النبرة، وظهر واضحًا أن ترامب بدأ يرى الأمور من منظور مختلف. فقد صدرت عنه لاحقًا تصريحات غير مسبوقة، وجّه فيها انتقادات صريحة إلى بوتين، واصفًا "تصرفاته العسكرية" بأنها "خطيرة وغير محسوبة"، مع تلميح متكرر إلى أن "الحرب يجب أن تتوقف في أقرب وقت".
أوكرانيا في قلب الناتو ومجموعة السبع
مشاركة زيلينسكي الأخيرة في مؤتمر الناتو في لاهاي كانت تأكيدًا على أن كييف باتت جزءًا لا يتجزأ من منظومة الحلف، وإن لم تحصل بعد على العضوية الكاملة. خلال المؤتمر، حصلت أوكرانيا على دعم واسع في مجالات الدفاع الجوي، التدريب العسكري، وتحديث الصناعات الدفاعية.
كما لم يكن الحضور الأوكراني في قمة مجموعة السبع أقل أهمية. هناك، حصل زيلينسكي على دعم سياسي ومعنوي كبير، وفرض من جديد ملف الحرب على رأس أولويات القادة.
من الدمار إلى التأثير: سردية الانتصار السياسي
وسط الخراب والموت، ينجح زيلينسكي في إعادة صياغة موقع أوكرانيا في الوعي الغربي. لم تعد بلاده مجرد ميدان حرب، بل باتت شريكًا فاعلاً في قرارات الحرب والسلام، وصاحب صوت حقيقي على طاولات القرار.
في قمة الناتو الأخيرة، لم تكن التعهدات مجرد وعود سياسية، بل ترجمة عملية لواقع جديد: الجيش الأوكراني اليوم يُدمج تدريجيًا في منظومة الناتو الدفاعية، ليس كعضو رسمي، بل كشريك عملياتي. تم الإعلان عن إنشاء مركز قيادة مشترك في بولندا لتنسيق الدعم الميداني، كما تم اعتماد برامج تدريب أوكرانية داخل أراضي الناتو، وتزويد كييف بأنظمة غربية متقدمة يتطلب استخدامها التفاهم الكامل مع منظومات الرصد والاتصال الأطلسية.
بمعنى آخر، الجيش الأوكراني بات يعمل وفق عقيدة الناتو، ويتلقى أوامر واستشارات من ضباط مرتبطين مباشرة بهياكل الحلف. وهو تحوّل لا يُقاس بالسلاح فقط، بل بالتفكير والاستراتيجية، في ما يشبه إعادة تشكيل للجيش الأوكراني داخل البنية الغربية، دون الحاجة إلى إعلان رسمي بعضوية كاملة.
سياسيًا، أوكرانيا ربحت سردية كبرى في هذه الحرب: لقد فشلت روسيا في عزلها، وفشلت في فرض رؤيتها على المجتمع الدولي. بينما أرادت موسكو أن تكون أوكرانيا دولة هامشية خائفة من الغرب، باتت اليوم عنوانًا للثبات، وحليفًا موثوقًا في قلب الناتو ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي.
خسارة الرهان على ترامب: موسكو تتقدّم عسكريًا... وتخسر سياسيًا
ومن مفارقات هذه المرحلة، أن روسيا التي كانت تراهن على تغيّر الموقف الأميركي بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تلقّت ضربة سياسية هادئة. فالرئيس الأميركي، الذي كان يُنظر إليه في موسكو كفرصة لإضعاف موقف الغرب، بدأ يتحرّك في الاتجاه المعاكس. فبعد لقاءه الصدامي مع زيلينسكي في المكتب البيضاوي، اختار الرئيس الأوكراني أن يحتويه بدل أن يواجهه، فنجح تدريجيًا في تعديل وجهة نظره.
لقاءا الفاتيكان ولاهاي لم يكونا مجرّد مناسبات بروتوكولية، بل كانا لحظتين حاسمتين في بناء مسار سياسي جديد. ترامب، الذي لطالما تحفّظ على دعم الحرب، بدأ يُظهر مواقف أكثر صرامة تجاه بوتين، متحدثًا عن "خطورة التوسع الروسي"، ومشيرًا إلى أن "الحرب يجب أن تُحسم، لكن ليس على حساب الدول الصغيرة".
في الكرملين، لم تمر هذه التحولات بهدوء. فبينما تُحرز القوات الروسية بعض المكاسب الميدانية المحدودة، وتُوسّع سيطرتها في نقاط معينة على طول الجبهات، تخسر روسيا تدريجيًا أهم ما كانت تراهن عليه: الانقسام الغربي، وحياد واشنطن، وموقف ترامب الغامض. جميعها اليوم تتآكل، تحت تأثير السردية التي نجح زيلينسكي في فرضها بمهارة.
إنه انتصار سياسي حقيقي في زمن الحروب: أن تنتزع موقعك في وعي العواصم الغربية، وأن تحوّل بلدك من هدف إلى حليف، ومن ضحية إلى جزء من النظام الدفاعي الذي أرادت روسيا تدميره.
وبينما يواصل الطيران الروسي إسقاط البيوت، لا يزال زيلينسكي يبني الجسور. تلك معادلة لم تحسب لها موسكو حسابًا.