في نهاية الأسبوع الأخير من يونيو، دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا مرحلة جديدة من التوحش والإجرام المنهجي. لم تعد موسكو تكتفي بالسعي إلى مكاسب ميدانية، بل باتت تمارس إرهابًا جويًا ممنهجًا ضد السكان المدنيين، في ما يشبه محاولةً لمحو أوكرانيا من الوجود عبر إبادة بطيئة ومدروسة. أكثر من 530 طائرة مسيّرة وصاروخ أُطلقت خلال ساعات، فيما وصفته كييف بأنه أعنف هجوم جوي منذ اندلاع الحرب. الهجوم لم يستهدف مواقع عسكرية أو بنى تحتية استراتيجية، بل ضرب عمدًا الأحياء السكنية في كييف وخاركيف وأوديسا ودنيبرو ولفيف، وأسفر عن عشرات القتلى والجرحى، إلى جانب دمار هائل في الممتلكات والمرافق المدنية، بما فيها مشافٍ ومراكز إيواء.
وفي خضم الدفاع الجوي المكثّف، أعلنت أوكرانيا أنها خسرت ثالث طائرة F-16 غربية الصنع، في ضربة جديدة لسلاحها الجوي الذي يواجه ضغطًا غير مسبوق نتيجة الهجمات الروسية المتواصلة. الطائرات التي وصلت البلاد قبل أشهر فقط باتت تُستنزف تباعًا، في وقت تحاول فيه كييف تعزيز دفاعاتها الجوية المحدودة أمام طوفان الصواريخ والطائرات المسيّرة.
وفي مدينة أوديسا، أسفر هجوم ليلي بطائرات مسيّرة روسية عن تدمير مبنى سكني من ثلاث طبقات، مما أدى إلى مقتل شخصين وإصابة 17 آخرين. ولم يكن هذا سوى فصل من سلسلة غارات مكثفة استهدفت الجنوب الأوكراني. وفي المقابل، نفّذت أوكرانيا ضربة دقيقة استهدفت قاعدة روسية في شبه جزيرة القرم، أسفرت عن تدمير ثلاث مروحيات ومنظومة دفاع جوي، في رد محدود لا يقارن بحجم النيران الروسية التي تتصاعد بلا ضوابط، وكأن موسكو تسعى لاستكمال ما فشلت بتحقيقه عبر الاجتياح المباشر: كسر إرادة الشعب الأوكراني بالقتل الجماعي والترهيب العشوائي.
على الأرض، واصلت القوات الروسية تقدمها في عدة محاور، من دونيتسك إلى بوكروفسك، مرورًا بخاركيف وسومي. وتلامس المعارك تخوم المدن، في وقت تحاول فيه وحدات الدفاع الأوكرانية صد التقدم الروسي في ظروف بالغة الصعوبة، لا سيما مع اتساع القصف المدفعي والغارات الليلية. وفي محور سومي، تتحدث التقارير الميدانية عن محاولات روسية لتثبيت وجود دائم من خلال إنشاء نقاط سيطرة وهياكل دفاعية، في إطار خطة ترمي إلى فرض منطقة عازلة بعمق 15 كم، ما يشير إلى نية موسكو تقطيع أوصال الدولة الأوكرانية وخلق جبهات دائمة يصعب تفكيكها.
أما الدعم الغربي لأوكرانيا، فلا يزال حاضرًا على مستوى التصريحات والمساعدات المحدودة، لكن حجم الكارثة بات يتجاوز ما توفره العواصم الأوروبية من ذخائر أو وعود سياسية. وحتى على المستوى الدبلوماسي، تصطدم أي محاولات لإعادة إطلاق المفاوضات برفض روسي لأي حوار لا يعترف بسيطرتها على الأراضي المحتلة. بوتين، في تصريحاته الأخيرة، لمح إلى استعداده للقبول بالوساطة التركية، لكنه اشترط أن تُجرى المفاوضات من دون شروط مسبقة، ومن منطلق "الوقائع الجديدة على الأرض" — أي الاعتراف بما فرضته روسيا بالقوة، وهو ما ترفضه كييف بشكل قاطع.
وفي تحول رمزي لكنه بالغ الدلالة، أعلنت أوكرانيا رسميًا انسحابها من معاهدة أوتاوا لحظر الألغام المضادة للأفراد. المعاهدة التي وقعتها كييف في زمن السلم، لم تعد تنطبق على واقع تتعرض فيه البلاد للتلغيم والهجمات العشوائية من قِبل دولة لا تلتزم أصلًا بالاتفاقيات الدولية. القرار يعكس تغييرًا استراتيجيًا في نهج أوكرانيا: البقاء لم يعد ممكنًا إلا باستخدام الأدوات ذاتها التي يستخدمها المعتدي.
المدنيون الأوكرانيون، الذين يدفعون يوميًا ثمن هذه الحرب من أرواحهم ومنازلهم وأمانهم، لا يرون في هذا التصعيد إلا مزيدًا من الدمار القادم. ومع كل غارة روسية، تترسخ صورة نظام يتبنى الإرهاب كعقيدة، والقتل كوسيلة لتحقيق أهدافه. روسيا لم تعد تضرب لتحقق انتصارًا عسكريًا، بل لتدمّر، وتقتل، وتروّع. ما يجري لم يعد حربًا تقليدية، بل عملية إبادة تدريجية ترتكبها دولة عضو في مجلس الأمن، في ظل صمت دولي مريب ولا مبالاة متنامية من مجتمع دولي يبدو أنه اعتاد على صور المجازر.
ما يحدث ليس خطأ في الحسابات، ولا تجاوزات ميدانية، بل هو سلوك ممنهج لنظام يتغذى على الدم والدمار، ويستمد شرعيته من القصف والخراب. لم تعد روسيا قوة محتلة فحسب، بل تحوّلت إلى كيان إرهابي يمارس القتل على مستوى دولة. وفي منتدى خاص بمدينة سان بطرسبرغ الأسبوع الماضي، كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عمق النزعة الاستعمارية التي تحركه، حين رد على سؤال الزميل الإعلامي نديم قطيش حول سبب توغل قواته في مقاطعات لم تعلن موسكو ضمها سابقًا، قائلًا: «الشعب الروسي والأوكراني شعب واحد، وأوكرانيا لنا». إنها جملة تلخّص الفاشية الروسية الحديثة بكل صَلافَتِها: إنكار لوجود شعب، ومسح لهويته، وسلب لأرضه تحت ذريعة القربى. هذا ليس رأيًا سياسيًا، بل إعلان مشروع إبادة وطنية. ومن يؤمن أن الشعوب تُدار بالعاطفة لا بالحق، لا يبحث عن وحدة، بل عن عبودية. والرد الحقيقي على هذا الجنون ليس فقط في ساحات الحرب، بل في ترسيخ وعي بأن من يدّعي وحدة الدم ليبرّر سفكه، لا يختلف عن أي جلاد في التاريخ. بوتين لم يعد يتحدث بلغة السياسة، بل بلغة احتلالٍ سافر، ومن يلتزم الصمت أمام هذا الخطاب، شريك في الجريمة.