منذ نشأته، استطاع "حزب الله" أن ينسج حول سلاحه شبكة من الذرائع تتبدل مع تبدّل الظروف، لكنها تصب دائمًا في هدف واحد: إبقاء القرار السيادي اللبناني رهينة، وتحصين امتلاكه الحصري للقوة المسلحة خارج إطار الدولة. فالعدو دائم الحضور، وإن تنوّع اسمه: إسرائيل، "داعش"، المخيمات الفلسطينية، أو حتى "العملاء في الداخل". والنتيجة واحدة: لا تسليم للسلاح، لا شراكة وطنية حقيقية، ولا قيام للدولة.
أكثر ما يكشف منطق "الحزب" هذا هو ما حصل بعد حرب تموز 2006. يومها، أطلق عملية عسكرية عبر الحدود من دون علم الدولة، فاستدرج على لبنان حربًا إسرائيلية مدمرة، انتهت بصدور القرار 1701 الذي نصّ بوضوح على بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، ووقف أي وجود مسلح خارجها. لكن ما حصل كان العكس تمامًا. استفاد "الحزب" من وقف النار، وتراجع الدولة، وعدم تطبيق القرار الدولي، وراح يراكم ترسانة صاروخية أضخم من ذي قبل، ويطوّر تصنيعًا عسكريًا محليًا، ويحصل على دعم مالي وتقني مفتوح من إيران. وبعد سنوات، أصبح أمينه العام السيد حسن نصرالله يفاخر علنًا بهذه الترسانة، عارضًا بعض منتجاتها في الإعلام، ومهددًا بتصديرها.
هذه التجربة يريد "الحزب" اليوم أن يعيد إنتاجها بحذافيرها. وافق على اتفاق وقف إطلاق النار بعد تصعيد 2024-2025، لأنه كان يواجه خطر القضاء الكامل عليه. وافق تكتيكيًا، لا اقتناعًا، ليكسب الوقت، ويرمم ما تهدّم من قدراته، ويعيد تنظيم صفوفه. والأخطر أنه لا يريد انسحابًا إسرائيليًا من ما تبقى من نقاط محتلة، لأنّ بقاء إسرائيل يعطيه الذريعة الذهبية للاحتفاظ بالسلاح. فحتى لو انسحبت، وحتى لو حُسمت قضية مزارع شبعا، فإن "الحزب" لن يتخلّى عن سلاحه. لأنه لا يُؤمن بالدولة كمرجعية نهائية، بل كغطاء موقت في انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليها مجددًا.
وكلما طُرحت مسألة نزع السلاح، طُرحت معها فجأة قضايا "الأمن الوطني"، فتعاد إلى الواجهة خلايا "داعش" النائمة، أو يجري التذكير بخطر المخيمات الفلسطينية، أو التلويح بأن الجيش غير قادر وحده على الدفاع عن البلاد. السيناريو نفسه يتكرر: يتم تخويف اللبنانيين من انهيار أمني محتمل إن اختفى "الحزب"، بينما الحقيقة أن وجوده هو أصل هذا الانهيار.
المعادلة واضحة: الدولة في سباق مصيري مع "الحزب" على من يملأ الفراغ. فإما تستعيد الدولة هيبتها وتفرض سيادتها، أو تبقى خاضعة لرغبات "الحزب" تنتظر إشارته لتتصرف. وفي ظل هذا الواقع، لا يُعقل أن يبقى الحكم والحكومة أسرى الخوف. المطلوب اليوم قرار سياسي شجاع، يخرج من حسابات المساكنة القسرية، ويواجه الأمر الواقع بمنطق السيادة لا التعايش مع الميليشيا.
لقد اختبر لبنان ثمن الخضوع، وهو خراب المؤسسات، وتفكك المجتمع، واندثار الاقتصاد. والتاريخ يعلّم أن الهروب الدائم من المواجهة مع الباطل لا ينتج سلامًا، بل يُراكم الخراب. فهل نواصل الدوران في حلقة الذرائع؟ أم نقطع السلسلة عند حلقاتها الأضعف، ونبدأ مسارًا وطنيًا جديدًا يعيد الدولة إلى اللبنانيين؟
الجواب ليس عند "الحزب"، بل عند من يفترض أن يكونوا أصحاب القرار في الدولة. والاختبار اليوم ليس في الشجاعة الكلامية، بل في قرار يقلب المعادلة: لا مزيد من الخوف من السلاح، بل فرض القانون على من يحمله.