رايتشل هيغن

عفرين... جحيم الأكراد!

13 تشرين الثاني 2020

المصدر: Open Democracy

02 : 01

تَصِف امرأة لم تذكر اسمها في أحد الفيديوات تفاصيل احتجازها في منطقة "عفرين"، شمالي سوريا، فتقول: "هدّدني بقتل ابنتي واغتصابي والتقاط صورٍ لي وتوزيعها على الجميع. وأجبرني على مشاهدة ممارسات التعذيب بحق النساء. كانت تلك المشاهد مريعة لدرجة أنني مرضتُ لمجرّد رؤيتها". كانت عفرين سابقاً منطقة ذات أغلبية كردية، حيث تتمتع المرأة بحقوق تفوق نظرائها في أي مكان آخر من سوريا، ذلك البلد الذكوري الغارق في حرب دموية. يُمنَع زواج الأطفال وتعدد الزوجات هناك ويُعتبر العنف المنزلي جريمة.

بقيت هذه المدينة آمنة في معظم فترات الحرب السورية وشكّلت ملاذاً آمناً لجميع القادمين إليها. صرّحت شيلر سيدو، مقيمة سابقة في عفرين عمرها 31 سنة ومتطوعة في الهلال الأحمر الكردي، لموقعOpen Democracy: "كنا نعيش في بيئة حرّة حيث يستطيع جميع الناس، لا سيما النساء، أن يظهروا بالشكل الذي يريدونه. كانت المرأة ترتدي السراويل والأثواب القصيرة والتنانير وكل ما تريده. كذلك، كانت نسبة الجرائم منخفضة جداً. يُعتبر التنعم بهذا الشكل من الأمان أمراً مميزاً في سوريا. لطالما كانت الأجواء هناك مثالية وسلمية جداً". لكن سرعان ما تغيّر هذا الوضع.

منذ العام 2018، أصبحت عفرين تحت سيطرة الميليشيات المدعومة من تركيا، فهي استولت على المدينة بعد عملية دامت شهرَين للقضاء على القوات الكردية. برأي عدد كبير من سكان المدينة، أصبح الوضع أشبه بالعيش تحت الحصار.

في آذار 2018، هربت شيلر مع عائلتها من منزلهم المؤلف من خمس غرف نوم لأن "المدينة لم تعد تستطيع الصمود تحت حكم الفصائل" كما تقول.

مناخ من الخوف


اكتشفت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا أدلة واسعة على تدهور وضع النساء الكرديات، فرصدت مؤشرات على حصول عمليات اغتصاب وعنف جنسي وتحرش وتعذيب يومياً خلال النصف الأول من العام 2020. كما أنها تذكر أمثلة مزعجة عن حالات اغتصاب كثيرة وخطف المدنيين في عفرين. يوثّق تقرير اللجنة اغتصاب 30 امرأة على الأقل في بلدة تل أبيض الكردية في شهر شباط وحده. تقول شيلر بنبرة قلقة: "ترتكب الفصائل مئات وآلاف الانتهاكات يومياً. أقاربي لا يزالون هناك".

انتشر فيديو في وقتٍ سابق من هذه السنة حيث تظهر نساء محتجزات في زنزانة سرية ومكتظة وغير قانونية. ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن النساء كنّ عاريات عند العثور عليهنّ.

تشبه هذه الفظائع ما أصاب الشعب الكردي بسبب "داعش" قبل سنوات قليلة في أجزاء من العراق وسوريا. لكن لا تتعرّض النساء هذه المرة للتعذيب على يد تنظيم إسلامي متشدد، بل يخضعن لسيطرة ميليشيات مدعومة من تركيا المنتسبة إلى حلف الناتو والمتحالفة مع الولايات المتحدة.

تتكلـم ميغان بوديــت، مؤسِّسة "مشروع نساء عفرين المفقودات"، عن انتشار خوف شديد من التعذيب لدرجة أن تمتنع النساء عن مغادرة منازلهنّ لأنهن يخشين أن تستهدفهنّ الجماعات المسلّحة. أطلقت بوديت موقعاً إلكترونياً في العام 2018 لتعقب اختفاء النساء في تلك المنطقة، وهو مصدر قلق هائل إلى جانب ممارسات التعذيب.

وفق بعض الادعاءات، اختُطِفت 173 امرأة وفتاة منذ كانون الثاني 2018 ولم يتم إطلاق سراح إلا 64 امرأة منهنّ ولا يزال مصير 109 أخريات مجهولاً. برأي ميغان، "انطلقت حملة ترهيب كاملة ضد الشعب الكردي". ويتكلم باحثون محليون آخرون في مجال حقوق الإنسان عن حصول أكثر من 1500 عملية خطف. تجدر الإشارة إلى أن ميغان لا تُوثّق إلا الحالات التي تكون فيها هوية المرأة معروفة.

هرب عدد كبير من الأكراد من عفرين في العام 2018، بما في ذلك حسن حسن (50 عاماً) الذي يصف كيف هربت عائلته وهي لا تحمل معها إلا بعض الطعام والملابس وتركت وراءها منزلها وصورها وألعاب أولادها ومفروشاتها.

هربت عائلة حسن إلى بلدة أخرى وعاشت داخل كهف طوال 45 يوماً: "كان القصف يومياً وانتشرت طائرات "إف - 16" وطائرات بلا طيار في السماء. هربنا من الحصار بحمد الله". يعيش أفراد هذه العائلة الآن في مخيم الشهباء المريع بالقرب من حلب مع عدد آخر من النازحين داخلياً، منهم شيلر وأولادها الثلاثة.

ترك حسن وشيلر وراءهما حوالى 200 ألف مقيم في عفرين. ويجازف السكان المتبقون هناك بالتعرض للتعذيب والخطف. أصبح أنسباء حسن وأصدقاؤه وجيرانه في عداد المفقودين.

لكنّ حياتهــم الجديدة لا تخلو من المعاناة. تقول شيلر: "يوم أمس، لم نتمكن من النوم بسبب أصوات القصف الصاخبة". كانت المنطقة التي يقع فيها المخيم تخضع لسيطرة "داعش" في السابق وقد زرع عناصر التنظيم مئات الألغام الأرضية فيها. شهدت شيلر على سقوط الضحايا وكانت تجول بين الجثث يومياً لكنها تقول: "نحن نتحمل هذا النوع من الحياة لأننا نشعر بأننا قريبون جغرافياً من وطننا".



إنتشار جنود أكراد في وسط مدينة عفرين السورية على الحدود مع تركيا (آذار 2018) - أرشيف



منطقة غير آمنة


قبل سنة، غزا الرئيس التركي أردوغان المعقل الكردي في سوريا للتخلص من جميع عناصر "حزب العمال الكردستاني" و"حزب الاتحاد الديموقراطي" و"وحدات حماية الشعب" لأنه يصنّفها كجماعات إرهابية. لقد اعتبر تلك المساحة "منطقة آمنة" بِعَرض 300 ميل على طول الحدود. احتدمت أعمال العنف بعدما أصدر ترامب أمراً بسحب جميع القوات الأميركية من شمال سوريا.

لكن تقول منظمة "هيومن رايتس ووتش" إن الواقع في تلك "المنطقة الآمنة" يعكس وضعاً مريعاً، إذ تتكرر عمليات النهب والإعدام وإطلاق النار والتهجير القسري يومياً. توضح سارة ليا ويتسون، مديرة المنظمة في الشرق الأوسط: "ثمة أدلة دامغة على أن "المناطق الآمنة" التي تقترحها تركيا لن تكون آمنة بأي شكل".

تعتبر ميغان قرار ترامب بالانسحاب سبباً لتداعيات سياسية كثيرة داخل الولايات المتحدة، وهذا ما جعل وسائل الإعلام الغربية تتأهب وتُركّز على جرائم القتل الحاصلة بدرجة إضافية بعد تبنّي منظور سياسي أميركي جديد.

استهدفت إحدى الجرائم مثلاً هفرين خلف، سياسية كردية سورية ومهندسة مدنية. تعرّضت هذه المرأة للتعذيب والإعدام خلال "عملية نبع السلام" الهجومية التركية في العام 2019 في شمال شرق سوريا. يرصد فيديو على موقع Bellingcat تفاصيل قتلها وينسبه إلى ثوار مدعومين من تركيا. وتتكلم جهات أخرى عن تورط الجماعة الثورية السورية "أحرار الشرقية" التي تقاتل كجزءٍ من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، لكنها تُصِرّ على إنكار التهمة.

اعتُبر مقتل خلف عملية ناجحة لمكافحة الإرهاب في الصحيفة التركية المحافِظة "يني شفق"، لكنّ هذا التحليل هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. كرّست خلف حياتها للديموقراطية والحركة النسوية، وأشار تشريح جثتها إلى جرّها من سيارتها بعنف لدرجة اقتلاع شعرها وتعرّضها لإطلاق النار في رأسها عن مسافة قريبة وموتها نتيجة نزيف دماغي حاد.

توسّع تركي خطير

تشعر ميغان بالقلق من سياسة تركيا القومية والتوسعية التي تمتد برأيها إلى سوريا وتطرح خطراً هائلاً على الأقليات العرقية والدينية. تتابع قائلة: "طالما يسيطرون على الأراضي في سوريا، يبقى احتمال غزو المزيد من الأراضي واحتلالها قائماً".

وفق تقرير "مركز معلومات روجافا"، تؤمّن تركيا الملجأ والتمويل والحماية لأكثر من 40 عضواً سابقاً في "داعش" داخل الأراضي المحتلة، وينشط هؤلاء في عفرين. تقول شيلر، المعلّمة السابقة، إن مدرستها كانت تشمل أكثر من 200 تلميذ لكنها أصبحت اليوم مركزاً للاستخبارات التركية وترتفع صورة أردوغان في وسط عفرين. يدّعي حسن من جهته أن مزرعته أصبحت الآن مُلكاً لمقاتلين سابقين في "داعش".

يكون مجرّد ذِكْر "داعش" مقلقاً، لا سيما بنظر النساء اليزيديات: إنها الأقلية الدينية التي تعرّضت لإبادة جماعية على يد تلك الجماعة المتطرفة. توضح إيمي أوستن هولمز، باحثة موقّتة في "مبادرة الشرق الأوسط" في جامعة "هارفارد" وعالِمة في "مركز ويلسون": "طُرِد حوالى 90% من الشعب اليزيدي في عفرين من منازلهم". كيف يمكن أن تصمد تلك الجماعة في ظل هذا الكم من الاضطهاد على مر السنين؟

يتعامل الدكتور جان إلهان كيزلهان، طبيب نفسي كردي ألماني بارز، مع اليزيديين ويتكلم عن الصدمة الجماعية التي يعيشونها قائلاً: "تتأثر هذه الجماعة كلها بجرائم القتل بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لا مفر من أن يصبح الفرد جزءاً من هذه الصدمة الجماعية. كل من يعاني قد تراوده الكوابيس أو يضطرب نومه أو يشعر بعجز تام. هذا ما يحصل في عفرين أيضاً. يغتصب المقاتلون النساء لكنهم يدمرون أيضاً كرامة المجتمع. إنه هجوم على نظرة الناس إلى العالم لأن السؤال المحوري في هذا المجال هو التالي: كيف يستطيع إنسان ارتكاب هذه الفظائع"؟

يتقاسم حسن وشيلر هذا الرأي أيضاً. تقول شيلر: "حين نسمع ما يصيب النساء، نشعر بأنه مصابنا جميعاً. يصعب أن يفهم الآخرون التأثير النفسي لهذا الوضع علينا". يظن حسن من جهته أن والده توفي حديثاً "بسبب الأسى".

تُفصّل لجنة الأمم المتحدة أيضاً عمليات النهب وتدمير مواقع دينية وأضرحة ومقابر لها قيمة كبيرة في منطقة عفرين.

فــــات الأوان عــــلــــى الــــتــــحــــرّك!

يؤكد تقرير الأمم المتحدة على النتائج التي توصلت إليها ميغان. هي ممتنة لأن نتائجها صحيحة، لكنها تضيف قائلة: "حالما سيطرت تلك الجماعات على المنطقة، بدأت ترتكب الفظائع ضد المدنيين. لذا أظن أن الأوان فات على التحرك". يصعب على الصحافيين أن يصلوا إلى تلك المنطقة ويجازف كل من يرفع الصوت بحياته.

تضيف شيلر: "لا يُسمَح بدخول وسائل الإعلام إلى المنطقة، لذا لا يعرف سكان عفرين بعدد الانتهاكات المرتكبة يومياً. يفضّل الناس الموت في منازلهم على الخروج لأنهم يشعرون بخوف شديد".

يُفترض أن تُستعمَل هذه التقارير كأداة دفاعية في الأمم المتحدة لمعاقبة الدول التي ترتكب الجرائم. حتى الآن، لم تعاقب الولايات المتحدة أي جماعات مسلّحة مدعومة من تركيا بل تسمح بإعادة هندسة الأكراد ديموغرافياً، علماً أن عدداً كبيراً منهم خسر أفراداً من عائلته حين كانوا يقاتلون "داعش" إلى جانب القوات الأميركية.

في غضون ذلك، تتحمّل الولايات المتحدة وبريطانيا جزءاً من المسؤولية. أوقفت بريطانيا تراخيص تصدير جديدة لبيع الأسلحة إلى تركيا، لكن لا تزال التراخيص السابقة صالحة للاستعمال.

تضيف ميغان: "لا تهتم تركيا بحصول هذه الانتهاكات كلها، بل إنها تُسَرّ بكل ما يجعل حياة الأكراد بائسة. لكني أظن أن الأتراك لا يحبذون أن يتكلم عنهم الناس دولياً ويُركزوا على تحركاتهم". أخيراً، تختصر شيلر تجربتها قائلة: "الاحتلال جحيم حقيقي"!


MISS 3