روي أبو زيد

أرتســــاخ... (١/٢)نزاع على الوجود والكيان والهويّة

صراع دمويّ ليس على أرض فحسب، بل على حساب وجود وكيان وهويّة وإيمان! ربّما كُتب على الشعب الأرمني حمل صليبه والدفاع عن الإيمان المسيحي والتراث والإرث حتى الرمق الأخير. شعب ما زال يواجه العثمانيين بعناد. إنها قضيّة وجود والنزاع في هذه البقعة أكبر دليل على ذلك.

"نداء الوطن" تواصلت مع محللين سياسيين وناشطين وسكان تكلّموا عن تجربتهم مع النزاع الواقع وما تمخض عنه من واقع جديد.

"قصفونا بالفوسفور الأبيض!"، تقول مستشارة رئيس المجلس النيابي السابق والناشطة في مجال حقوق الإنسان أنوش غافاليان بصوتٍ تملؤه غصّة. وتكمل: "عُدتُ الى أرتساخ (ناغورني قره باغ) لكنّ عائلتي ما زالت في العاصمة يريفان. نحن مشغولون بإعادة ترميم منزلنا المتضرّر. لا نعلم متى سيعود السكان الى مناطقهم. البعض عاد الى أرضه فيما البعض الآخر ينتظر ترميم منزله بمساعدة الحكومة الحالية".

وحين نسألها عن رأيها باتفاقية وقف إطلاق النار تقول: "هو اتفاق أرمني- أذربيجاني- روسي وآمل أن يكون طويل الأمد".

وتضيف: "عادت الأوضاع الى طبيعتها. ما من خرقٍ للهدنة أو وقف إطلاق النار ولكنّ "أرمن أرتساخ يعانون ظروفاً سيئة جداً: أراضيهم حُرِقت، منازلهم تهدّمت، الكهرباء مقطوعة وشبكة الإنترنت بطيئة جداً حتى أنّ المواد الغذائية الأوليّة مفقودة. الجيش الأذربيجاني استقرّ في أغلبية المناطق على أنقاض الردم. أكثر من 900 ألف مدني أرمني تركوا منازلهم ليهاجروا نحو العاصمة والمناطق المجاورة".



أنوش غافاليان



تلوم غافاليان صمت العالم المطبق "ليس من الكنيسة فحسب بل من منظمات حقوق الإنسان والأونيسكو: شعبنا عانى جرائم حرب، قصفونا بالفوسفور، صوّبوا على المدنيين، استهدفوا مواقع اثرية. هل من أحد حرّك ساكناً؟ بالطبع لا! فالاتفاقات السياسية على حساب الأبرياء، على حساب سلبهم هويّتهم وأراضيهم وحياتهم!".

"ماريا الخمسينية التي تسكن أرتساخ منذ فتحت عيناها على الحياة لا تقوى على العيش بعيداً عن مسقط رأسها: "بيديّ مسكت تراب القبر، ورحت أحفر وأحفر. لن أدعهم يلمسون رفات أبي وأمي. سأنقلهم الى أرمينيا حيث لا تطالهم يد". وماريا ليست وحدها فسكان "ستيباناكرت" عاصمة أرتساخ ماضون منذ أيام في حفر قبور ذويهم لنقل رفاتهم "كي لا تدوسها وتدنّسها أرجل الآخرين"، يقولون.

والمدينة التي يبلغ عدد سكانها الخمسين ألف نسمة تعرّضت لقصفٍ مدفعي كثيف وإطلاق صواريخ دمّرت مبانيها وشوارعها، فهي مقرّ حكومة "ارتساخ" وتقع على بعد بضعة كيلومترات من خط المواجهة في مرمى نيران القوات الأذربيجانية. وبينما انهمك بعض السكان بالتنظيف، حمل آخرون أمتعتهم وهموا بالمغادرة. يعلّق نيلسون أداميان: "غادرت وعائلتي المنطقة. وبعد خمس أو عشر دقائق سمعنا دوياً قوياً. لحسن الحظ لم يكن هناك أحد في المنزل. إنه مصدر حزن كبير لمجتمعنا وشعبنا. لكننا سندافع عن أرضنا وإيماننا ومعتقداتنا ولن نستسلم. وُلدنا أحراراً وسنظل أحراراً دوماً".

تعاني المنطقة من شح الموارد وتحتاج إلى المزيد من الإمدادات الطبية والأطباء. لا إنارة في الشوارع. ما بقي من السكان يحرص على إغلاق الستائر لتجنب تسلل الضوء الى الخارج وتعريضهم للخطر.





سائق الأجرة الستيني أركادي ما زال متمسكاً بالأمل وبرغبة المواجهة: "لسنا خائفين. نحن أهل العزّة. الأرض أرضنا. أجدادنا توفوا فيها وسندفن الى جانبهم. لن نسمح للأذريين بالاستيلاء على شبر منها".

فلاديمير لا يثق بالأذربيجانيين ولا باتفاق وقف إطلاق النار: "لا نثق بهم. فقد يعودون للقتال بغمضة عين. لن يدوم وقف إطلاق النار. إنّها حيلة لكسب الوقت واستعادة القوّة".

يأبى الأهالي تسليم أراضيهم. سكان قرية شارختار المتاخمة لم يترددوا بحرق بيوتهم كي لا تستبيحها القوات الأذربيجانية. إنّه منزلي، لن أتركه للأتراك"، يقول ميسروب ملقياً علماً أذربيجانياً مغمساً بالوقود ومشتعلاً داخل بيته الصغير والمتواضع بعدما أفرغ منزله من الأثاث ولم يترك فيه سوى طاولة بلاستيكية".

نصف منازل القرية تعود الى الفلاحين. أصحابها يحرقونها بلوعة. المشهد نفسه في كلّ مكان: رجال بملابس عسكرية عائدون من الجبهات، يملأون سياراتهم العتيقة بما أمكنهم قبل إشعال النيران فيها.

"أحرق الأذربيجانيون أراضينا في ما مضى. دمّروا منازلنا. لن نتركهم يفعلون ذلك بنا مجدداً. نفضّل أن نحرقها وننبش جثث موتانا على أن نسلّمهم ما نملك"، يؤكد أرمان. ويتابع: "نبقى هنا؟ مستحيل! سيقتلوننا دون أدنى شكّ!". بعد هزيمتهم أمام الجيش الأذربيجاني بات أرمن المناطق التي سيتم تسليمها قريباً لباكو مقتنعين أن لديهم خياراً من اثنين: إما الرحيل أو الموت.



الحرقة بعد دفن ابنهما



أنوشافان السبعينية التي غزا الشيب مفرقيها تقول بأسىً: "بكيت طوال الليل عندما سمعت الأخبار. طفلي الصغير (ابنها البالغ عشرين عاماً والذي قضى خلال محاربة الأذربيجانيين) استُشهد خلال المعارك، وها نحن اليوم مُجبرون على ترك منازلنا وأراضينا".

ها هم اليوم يغادرون الاقليم بعدما تمّ تشجيعهم بالأمس على تلقي مساعدات وتحفيز من حكومة "ارتساخ" للبقاء في المنطقة.

يشير المحلّل السياسي يغيا تشجيان في حديث لـ"نداء الوطن" الى أنّ "إقليم أرتساخ يحتوي على 4041 منطقة أثرية ودينية، تتضمّن أكثر من 370 ديراً وموقعاً مسيحياً تمّ بناؤها بين القرن الرابع والقرن الثامن عشر. تتضمّن المنطقة كذلك 243 مقبرة قديمة موجودة منذ مئات السنين".

ويضيف: "70 بالمئة منها أصبحت بيد الأذربيجانيين ولكن الـ30 بالمئة الباقية منها ليست في يد الأرمن، خصوصاً في ظلّ التدخل الروسي"، موضحاً أنّ "المفاوضات بين الأرمن والأذربيجانيين تقضي بأن تكون الأديرة والمواقع الأثرية تحت الإدارة الروسية".

يعتبر تشجيان أنّ "هذا التدخل قد يحرم الأذربيجانيين بعض الأراضي التي تمكّنوا من الاستيلاء عليها خلال الحرب. ويمكن ملاحظة هذا الموضوع على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وما يتردد أخيراً في المجالس". وإذ يعتبر أنّ "الأرمن فشلوا بالمعركة"، أمل تشجيان أن "يعتمدوا أسلوباً ديبلوماسياً كي يستعيدوا ولو القليل ممّا خسروه". ويتابع: "خسرنا جامعة شوشي التي لها قيمة ثقافية رئيسة في العالم. الناس يتحدّثون عن الأديرة والكنائس ولكننا خسرنا أيضاً جامعات ومدارس تاريخية وقديمة"، مشدداً على أنّ "الحضارة الأرمنية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسيحية، خصوصاً وأنها مبنيّة على هذه الأسس ومتأثّرة جداً بهذا الطابع الإيماني والديني". ويوضح: "قد يكون سقوط الأرمن اليوم مشابهاً لسقوط القسطنطينية خصوصاً في ظلّ تنامي القوة التركية من جهة وإنقاذ الروس لأنفسهم في القوقاز". ويختم حديثه قائلاً: "أخاف أن يتأثّر مسيحيو الشرق ولبنان بما يحصل، خصوصاً وأنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان في قبرص يوم الأحد، حيث أعربت الصحف اليونانية عن تخوّفها من نشوء حرب دينية في قبرص تمتد الى أوروبا. وسيتأثر المسيحيون بهذه الحرب خصوصاً وأنهم أقلية في الشرق".



أب يبكي ابنه الشهيد



قصدت أُسر كثيرة المشرحة المحلّية لتسلّم جثث تمّ التعرف على هويات أصحابها. أرام الذي وصل مع زوجته لتسلّم جثة ابنهما ينتحب بصمت: "قُتِل في شوشة. خاتم زواجه لا يزال في إصبعه. كلّ هذا الموت المجاني. ما كنا نريد إلا أن نحيا بكرامةٍ وسلام في أراضينا".

الحكومة الأرمنية قلقة على تراث المنطقة. رغم تأكيدات باكو الحفاظ على جميع الأماكن التاريخية والروحية، الأرمن ما زالوا مشكّكين. كيف لا يفعلون وبعض الكنائس بدأ يتشوّه على يد الجنود الأذربيجانيين من تحطيم للتماثيل والصلبان على قبب الكنائس مع رسم شعاراتٍ متطرفة وإرهابية على حيطانها.

تقرّ أرمينيا حتى اليوم بمقتل 2317 من جنودها في النزاع، والبعض يقول إن الرقم الحقيقي أقرب من أربعة آلاف. اذربيجان في المقابل لا تكشف عن خسائرها العسكرية. التظاهرات شبه يومية في يريفان ضدّ ما حصل. تطلب الشرطة من المتظاهرين العودة الى منازلهم. تصرخ امرأة في الحشد بكلّ جوارحها: "أنا من شوشي، أيمكن أن تقول لي أين أعود؟ أين بيتي؟".