د. ميشال الشماعي

المقاومة الكيانية

21 تشرين الثاني 2020

02 : 00

عرف لبنان عبر تاريخه البعيد والقريب حركات مقاومة مختلفة، لكنّ أكثرها رسوخاً في ذهن اللبنانيين تلك التي ارتبطت بالكيانية اللبنانية، وليس بحدود جغرافية غير مرسّمة بعد، أو حتّى بمناطقية ضيّقة بين المجموعات الحضارية المختلفة. حتّى عُرِفَت هذه المقاومة بالذّات بـ"المقاومة اللبنانية". ولم ينجح أحد أن يسلبها تاريخها وإن كثر المحاولون. فهل ما زلنا اليوم بعد قرن من تثبيت الكيان اللبناني بحاجة إلى "المقاومة الكيانية؟".

لا شكّ أنّ التاريخ البعيد قد سجّل لهذه المقاومة جولاتها وصولاتها، ليس بدءاً بوادي المدفون ولا صعوداً نحو سيّدة الحصن وحتّى جبال بشرّي وحصرون وبزعون، ناهيك عن ابن الصبّحة وعباءته المملوكية، بل وصولاً إلى جبّة الكنيسة حيث ثبّتت هذه المقاومة كيانية لبنان في صلب الجبل مع المكوّن الحضاري الدرزي، وأتت به إلى صلب الكيانية اللبنانية لو بعد حربين ضروسين، وصولاً حتّى العام 1920 عندما نجح البطريرك الياس حويّك، مهندس لبنان الكبير الأكبر، بضمّ المجموعة الحضارية الشيعية إلى صلب الكيانية اللبنانية.

وتابعت هذه المقاومة مسيرتها حتّى العام 1990، يوم استطاع البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير إدخال المكوّن الحضاري السنّي في صلب الكيانية اللبنانية، لكنّه مُنِعَ من الدخول، أو بالحدّ الأدنى تمّ تحوير دخوله نحو النهج الإقتصادي بعيداً من السياسة حتّى عاد فدخل صلب الكيانية اللبنانية بدماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتحقّق المقاومة اللبنانية أسمى أهدافها. لكنّ نجاح "حزب الله" بعملية اختطاف أيديولوجية نوعية للمكوّن الشيعي الذي حقّق وعيه الكياني اللبناني مع الإمام المغيّب موسى الصدر نحو ولاية الفقيه الايرانية، عاد فأخرج هذا المكوّن من صلب الكيانية اللبنانية، بعدما زرع في وعيه الكياني قدرته على تحقيق كيانية خاصة به، تفوق الكيانية اللبنانية وجوداً واستمراراً بفعل غير مستدام، حقّقه بواسطة سلاحه غير الشرعي.

بناء على ما تقدّم، تبرز الحاجة إلى المقاومة الكيانية من جديد لأنّ روح هذه المقاومة لا تموت، بل تتجدّد عند أيّ خطر كياني، وقد لمسناها بالفعل في 14 آذار 2005 يوم تجلّت بأبهى حللها لتُنهِضَ لبنان من صدمته التاريخية. وعادت فتجلّت من جديد في 17 تشرين الأول من العام 2019، يوم وقف اللبنانيون مجتمعين بوجه ذئاب الفساد الذين تستّروا تحت عباءة السلاح غير الشرعي ليحتموا بها. لكنّ شارع 17 تشرين لم ينجح بإسقاط هذه العباءة كلّياً خوفاً منه بأن يخسر المومنتوم الذي حقّقه مع الناس كلّها. لكنّه خسر هذه اللحظة، لأنّه رفض أن ينخرط في صلب المقاومة الكيانية التي اتّخذت الشكل الإقتصادي والإجتماعي وقتذاك ضدّ نهج الفساد والسلاح غير الشرعي.

أمّا اليوم، وبعدما وصل لبنان الكياني إلى الأفق المسدود، وبعد إدخاله عنوة في المجهول التزاماً من هذه السلطة السياسية بمِحور لا يمتّ بأيّ صلة إلى الكيانية اللبنانية بشيء، فبتنا بأمسّ الحاجة إلى المقاومة الكيانية التي تستمدّ روحها من مئات السنين التي طبعت تاريخ هذه الأرض. لكنّ شكلها اليوم يختلف تماشياً مع واقع الحال السياسي. فعِماد هذه المقاومة ليس في بزّة عسكرية من هنا، أو بسلاح غير شرعي يبحث عن طرق لتسييله في السياسة، بل في الكلمة الحرّة، وفي الوقوف مع الناس من دون أيّ تمييز بينهم، من خلال تأمين مستشفيات لهم تستقبلهم في حال حاجتهم إلى العناية الصحيّة، ومن خلال تأمين مسكن يليق بهم وبأولادهم متى نزحوا من دساكرهم وقراهم طلباً للعلم أو العمل، وبتأمين حبّة الدواء من دون إذلالهم أمام أبواب القصور. والأهمّ، أنّ شكل هذه المقاومة الكيانية اليوم يتجلّى في العمل السياسي النظيف والطاهر الذي لا تشوبه أيّ لوثة فساد، لأنّ السياسة ليست مهنة حقيرة، بل هنالك ساسة حقيرون، وذلك للوصول إلى دولة الانسان، دولة لا يموت فيها المواطن جوعاً أو بسبب نقص دواء ما، أو حتّى برداً لأنّ المازوت الذي من حقّه أن يتدفّأ به قد هرّبته السلطة الفاسدة لتقبض ثمنه ثلاثين من فضّة. دولة فيها الكهرباء حقّ طبيعي، وليست صفقة أو قطعة جبن تقسّم بين محسوبيات المناطق على حساب الإنسان والإنسانية.

لكلّ الذين يسألون عن ماهية المقاومة الكيانية وفي ما إذا كنّا بحقّ بحاجة إليها، حقّقوا لنا ما نصبو إليه، وعندها لا نريد أن نقاوم، لكن أن تقتلونا في اللحظة مئات المرّات، سنقاوم آلافاً مؤلّفة من السنين، ولن يثنينا أحد عن ممارسة حقّنا الكياني بالمقاومة الكيانية. ومن له أذنان للسماع فليسمع!


MISS 3