روي أبو زيد

أرتســــاخ... (٢/٢) أرمينيا تغلي وشعبها لن يستسلم!

دير داديفانك
صَمَت العالم وخصوصاً الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية إزاء الانتهاكات الإيمانية التي يتعرّض لها "أرتساخ" (ناغورنو كاراباخ) على يد الأذربيجانيين. فما موقف السلطات الكنسية الأرمنية والأرمن إزاء التعديات الحاصلة أخيراً؟ "نداء الوطن" تواصلت مع كهنة ومؤمنين تكلّموا عن تجربتهم مع الواقع والمستجدات الأخيرة.

"نحن كبطركية أرمن أرثوذكس في بيت كيليكيا في أنطلياس ومع كل الأبرشيات الأرمنية والكنائس في العالم نرفض هذه الاتفاقية، فهي ليست اتفاقية وقف إطلاق نار خصوصاً وأنها لا تضع السلام نصب أعينها".

بهذه العبارة يعرب كاثوليكوس الأرمن لبيت كيليكيا في بيروت البطريرك آرام الأول كيشيشيان عن رفضه التام لاتفاقية إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان.

ويوضح أنّ "الأرمن وضعوا تحت الأمر الواقع بعد تسلّمهم خريطة معيّنة أجبروا على السير بحسبها، في ظلّ تدخّل الجنود الروس لإيقاف الحرب".

ويشدد غبطته على أنّ "البحث يجب أن يكون أكثر جدّية خصوصاً إزاء الواقع السياسي للإقليم، فضلاً عن البحث في موضوع المعالم الثقافية والدينية بقدر الإمكان".

ويختم آرام الأول كيشيشيان لافتاً الى أنّ "الاتفاقية غير واضحة المعالم، إذ هناك أمور عدّة يجب أن تتّضح وتوضع في نصابها الصحيح. خصوصاً وأنّ الاتفاقية ليست نتيجة مباحثات بل هي أمر واقع"، ويضيف بحزم: "نحن لا نعترف بهذه الاتفاقية حتى اليوم".

وتمركز جنود روس منذ السبت الفائت حول دير داديفانك القديم بعدما أعربت يريفان عن خشيتها من أن "تدنّسه" قوات أذربيجان. وقصده الأرمن المؤمنون الأحد الفائت للمشاركة في القداس، خصوصاً وأنّ لوازم الدير الليتورجية نُقلت الى مكان آمن.

وفي الدير ثلاثة كهنة أرمن بينهم الاب هوفانيس الذي يدير المكان. يشير هوفانيس الى أنّ "الجنود الروس يتولون حراسة الدير لكنه سيظل عائداً الى الكنيسة الرسولية الارمنية على أن يتبع مع محيطه للسلطات الأرمنية بحيث يتمكن الارمن من زيارته للصلاة".

"سنبقى هنا، مدافعين عن إيماننا ويسوعنا وأديارنا ومسيحيتنا حتى الرمق الأخير، حتى الاستشهاد"، هكذا نقل لنا المقرّبون من الأب هوفانيس إصراره على الدفاع عن دير داديفانك. ووقعت منطقة كلبجار، بجبالها الشاهقة ووديانها السحيقة ومنحدراتها الحرجية، تحت سيطرة باكو بما في ذلك "دير داديفانك" العزيز على قلوب الأرمن.



البطريرك آرام الأول كيشيشيان



"تأسس دير داديفانك في الأيام الأولى للمسيحية على يد القديس دادي ويعود بناؤه إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر"، بحسب ما تؤكده مستشارة رئيس المجلس النيابي السابق والناشطة في حقوق الإنسان أنوش غافاليان.

وتضيف أنه "بعد قرون من التاريخ المضطرب، ما زال المجمع الرهباني الرائع المعلق على كتف الجبل بحجارته الرمادية وكاتدرائيته يعد مفخرة للكنيسة الرسولية الأرمنية". ويزور المؤمنون الدير والغصّة تملأ أفئدتهم، أما الدموع فلا تفارق عيونهم.

ويقول سيرجيوس مياسنيك الذي قصد الدير مع عائلته من فاردينيس في شمال أرمينيا: "هذه الأرض هي أرض أجدادنا. حجارتها عمرها 800 عام".

وتشير إينا تومانيان التي تخرجت لتوها من جامعة يريفان، وكانت تريد أن يتمّ تعميدها في الدير منذ شهور الى أنّ "الأمر مهم جداً بالنسبة لي. ولكن ظهر فيروس كورونا ثم الحرب...عندما سمعت أنه سيتعين علينا التخلي عن الدير اتصلت بالكاهن، الذي طلب مني أن أحضر كي أعتمد على يده".

في ظل لوحتين جداريتين من القرن الثالث عشر تمثلان رجم شهيد وتتويج قديس، يعبر الأب هوفانيس عن شعوره بالمرارة إزاء أذربيجان، الدولة العلمانية ذات الأغلبية الشيعية الناطقة بالتركية، ويقول: "ليس لديهم القيم التي نحملها".

وحين "كانت المنطقة تحت سيطرة النظام السوفياتي في أذربيجان كما في أرمينيا، تعرض الموقع للإهمال وتُرك لتسرح فيه الماشية"، تضيف غافاليان.

ويتابع الكاهن بتأثّر شديد: "لقد فقد الناس أحباءهم وبيوتهم. لا يريدون أن يفقدوا داديفانك ... يجب أن نصلي من أجل حماية ديرنا".

ويشير الى أنّ "هذا الدير لنا، ولا يمكنني ترك المكان". أما بالنسبة لإعادة بعض الصلبان الثمينة التي تزيّن المكان إلى أرمينيا، فيقول: "من أنا لأقوم بنزع الحجارة الموجودة هنا منذ أكثر من 800 عام؟ لا يمكنني ذلك!".

وفي شوشي الواقعة على مسافة 15 كلم جنوب ستيباناكرت، طاول القصف مرتين كاتدرائية تحمل رمزية تاريخية كبيرة.

واعتبرت أغنس التي تسكن قرب الكنيسة أنه "لا يوجد ما هو عسكري أو استراتيجي هنا، كيف يمكن أن تستهدف كنيسة؟". وأضافت "إنها كاتدرائية مهمة للغاية بالنسبة للأرمن". و"أعيد بناء الكاتدرائية في التسعينيات عقب الحرب الأولى في أرتساخ، ما جعلها رمزاً بالنسبة للأرمن"، كما أكدت غافاليان.

ويشير أحد كهنة كاتدرائية سورب أستفاتسامور هوفانو الى أنها "المكان الأفضل الذي يحضن الجميع في ستيباناكرت".

ويقدم هذا الكاهن مساعدة للاجئين المشردين في السرداب المظلم بسبب انقطاع التيار الكهربائي.

وتشير غوهار ستيفانيان التي ما زالت تجهل مصير شقيقها الذي يشارك في المعارك الى أنّ "الرجال على جبهة القتال. علمت أمس بوفاة صديق يبلغ 23 عاماً".

لكن هذه الأم ترفض مغادرة "أرضها" وتقول "نأمل فقط بأن نعود الى بيوتنا كما كانت الحال في السابق".

ويسير بعض ساكني السرداب أحياناً إلى منازلهم أثناء الليل أو خلال فترات الهدوء، لجمع بعض الطعام والملابس. ويضيف الكاهن بحزم: "لن نسمح بأن يدخل العدو عمق أراضينا. هنا الأراضي التاريخية للمسيحية الأرمينية!".

وتقول فيرا، الأرمنية الغاضبة على ما آل اليه الواقع: "كنيسة شوشا كانت إسطبلاً للحيوانات وكنيسة كالباجار هي أصلاً اذربيجانية ولكن تاريخياً تعود للأرمن خصوصاً وأن عمرها أكثر من الف سنة".

وتضيف بأسى: "هذه الكنيسة كانت عبارة عن حطام وأعاد الأرمن بناءها وهي كنيسة داديفانغ. لا يهم الأتراك أو الأذربيجانيين أن يأخذوا ديراً أو كنائس".

في ظلّ غياب صمت كنسي مطبق إزاء مصير الواقع المسيحي والمسيحيين في أرتساخ، يشير رئيس ديوان كاثوليكوسية الأرمن الأرثوذكس ختشيك دهدهيان الى أنّ "قضية أرتساخ ليست قضية دينية، وليست حرب المسيحيين ضد الشيعة. كما أنّ الحال لم تكن كذلك خلال الإبادة الأرمنية في الحرب العالمية الأولى".

ويوضح أنّ "موضوع أرتساخ مرتبط بقضية شعب موجود في هذه الأرض منذ مئات السنين، والدليل على ذلك الأديرة القديمة الموجودة في الأرجاء والمعالم الأثرية التي يفوق عمرها مئات السنين".

ويضيف دهدهيان أنّ "باكو تعتبر أرتساخ جزءاً لا يتجزأ من أذربيجان، وتؤكد أنّ ذلك أمر معترف به من الأمم المتحدة، مشددة على أن وجود المسلمين في الإقليم يعود إلى عدة قرون، منذ أن كان تحت سيادة الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية السلجوقية".

ويلفت بالمقابل الى أنّ "الأرمن يعتبرون الإقليم الذي ضمته الامبراطورية الروسية في مطلع القرن التاسع عشر، لم يتم إلحاقه بجمهورية أذربيجان السوفياتية تحت تسمية "أوبلاست ناغوني قره باغ"، إلا بفعل قرار بيروقراطي سوفياتي تعسفي". ويتابع: "كان ذلك القرار نتيجة "مبادرة شخصية اتخذها جوزف ستالين في مطلع العشرينات، في وقت لم يكن بعد سيد الاتحاد السوفياتي بل مجرد "مفوض للجنسيات" في الجهاز السوفياتي.

ويشكل الأرمن غالبية سكان أرتساخ. وطالبت جمهورية أرمينيا مراراً بإعادة الإقليم إليها، لكنها اصطدمت برفض موسكو. وعند انهيار الاتحاد السوفياتي، انشقت المنطقة وأعلنت نفسها جمهورية، ما أدى إلى نشوب حروب عدة حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونيل أرمينيا استقلالها عام 1991.

يلفت دهدهيان الى أنه "في 27 أيلول كان الأذربيجانيون قد حضّروا أنفسهم لحلّ الموضوع عسكرياً. لكن خلافاً لكلّ التوقعات أدى هذا الخلاف الى تغيير التعامل، فتركيا ساندت أذربيجان بكل قوتها فضلاً عن دعم الجنود الباكستانيين والدواعش المرتزقة والطائرات الاسرائيلية، ما مكّن الأذربيجانيين من احتلال قسم كبير من الإقليم". ويتابع بحرقة: "80 بالمئة من هذه الأديرة لم تعد بيد الأرمن حالياً".



البطريرك آرام الأول كيشيشيان



ويشير دهدهيان الى أنّ "الإعلام الغربي لم يدافع عن حقوق الإنسان وخصوصاً حق الشعوب بتقرير المصير، فأخبر الرأي العام أنّ أذربيجان استرجعت أراضيها من دون التطرّق الى السبب أو الدخول في عمق الموضوع"، مضيفاً أنهم "يسلّطون الضوء على أذربيجان لأنها تمتلك محصولاً لا يُستهان به من البترول. كما لديها وسائل إعلام مهمة بفضل البترودولار الذي تملكه".

ويشدد رئيس ديوان كاثوليكوسية الأرمن الأرثوذكس على أن "الأرمن ليسوا توّاقين الى الحرب، لكن العالم صمت جميعه. حتى أنّ دول الجوار لم تهتم بالموضوع ولم تحرّك ساكناً". ويضيف: "يؤسفنا الصمت الكنسي المُطبق إن كان من الكنيسة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية في العالم. كان يمكن أن يكون لكنيسة روسيا دور أكبر لكنها لم تؤدّ دورها كما يجب". ويلفت دهدهيان الى أنّ "أهم المعالم الثقافية موجودة في دير يسوع المخلّص في شوشي، خصوصاً وأنّ المنطقة معروفة جداً بثقافتها وإرثها وعراقتها"، كاشفاً أنّ "الاذربيجانيين فرضوا أمراً واقعاً بإعلانهم أنّ شوشي من المناطق التي يريدون احتلالها". ويؤكد أنه "من اليوم الأول الذي دخلوا فيه الدير راحوا يعبثون بالغرافيتي على الحائط مندّدين بالأرمن وإيمانهم وتراثهم". ويتساءل: "كيف تكون الأراضي أذربيجانية والأديرة فيها تعود الى القرن الثاني عشر أو ما قبل؟".

ويختم بحزن: "هناك غضب وحزن كبيران جداً لدى الأرمن في ظلّ سكوت العالم والكنيسة، خصوصاً وأنّ وقف إطلاق النار ليس اتفاقية سلام بل هو مشروع لحرب جديدة بعد سنوات عدة".

من جهته، يعتبر النائب البطريركي لكنيسة الأرمن الكاثوليك المطران جورج أسادوريان أنّ "الصمت الكنسي أمر محزن جداً خصوصاً وأنّ معاهدة وقف إطلاق النار مُبهمة حتى اليوم". ويشير الى أنّ "كهنة الإقليم يصرخون بصوت واحد أنهم سيسلّمون أديرتهم على جثثهم فقط". ويشدد أسادوريان على أنّ "أرمينيا تغلي اليوم لكنّ شعبها لن يستسلم ولو أنّ العالم كلّه وقف ضدّه!".