محمد علي مقلد

الثوري والثورجي وعدوّ الثورة

28 تشرين الثاني 2020

08 : 00

إحدى الوسائل الناجحة في كشف مواقع العدوّ، في حروب الجيوش كما في حروب الميليشيات، هي الإستطلاع بالنار. قصف عشوائي لترى من أين يأتي الردّ. هذا ما فعلته الثورة اللبنانية من غير سلاح ناري. احتشد الناس في الشوارع والساحات، وتظاهروا أمام المؤسّسات الملوّثة بالفساد والإفساد، وصرخوا ضدّ الجوع وضدّ سرقة المال العام. سلاحهم الوحيد ضدّ الطغمة الحاكمة صرخة شجاعة في وجه منتهكي السيادة الوطنية والدستور والقوانين.

سرعان ما جاءهم الردّ في ساحتي رياض الصلح والشهداء، من بلطجية المجلس النيابي وموتوسيكلات الضاحية وحاملي العصيّ من الخندق الغميق، ومُشعلي النار تكراراً في خيم الثورة وفي مجسّم القبضة. كما تعرّضوا للإعتداء في جلّ الديب وأمام القصر الجمهوري ودوار كفررمان وصور وبنت جبيل وبعلبك.

إستخدمت الثورة شكلاً آخر من «الإستطلاع بالنار»، فطرحت برنامجاً للإنقاذ، من بنوده تشكيل حكومة لا تعتمد آليات المحاصصة بين زعماء المافيا والميليشيات، وتتولّى إعادة تشكيل السلطة بانتخابات مبكرة، وتحاسب المرتكبين، وتعيد الإعتبار للسلطة القضائية، لتمكينها من محاكمة لصوص المال العام.

إنكشفت مواقع المتربّصين بالثورة بإصرارهم على تشكيل الحكومة لا بآليات المحاصصة ذاتها فحسب، بل بالقوى ذاتها التي نكّلت بالثوار واعتدت عليهم بالسلاحين الأبيض والناري، القوى ذاتها المتّهمة بالفساد، القوى ذاتها التي أمعنت في استباحة السلطة القضائية وقضت على استقلاليتها، القوى ذاتها التي ماطلت بتشكيل الحكومة الأولى بعد الثورة، وتمتنع اليوم عن تشكيل الحكومة الثانية.

ألا يكفي كلّ ذلك لمعرفة من هو عدوّ الثورة؟ هذا المشهد الصارخ في وضوحه يكفي لكي لا «يحسب الشحم في من شحمه ورم»، بالإذن من المتنبّي، ولكي يميّز المرء بين الثائر والثورجي وعدوّ الثورة.

عدوّ الثورة فضح نفسه. هو وحده الذي اعتدى عليها واستخفّ بمطالبها وامتنع عن الإستجابة لنداءاتها. إنّه في الداخل، في السلطة السياسية. هو كلّ من وقف وراء حكومة الدمى ودعمها، وهو من انتهك وينتهك الدستور في كلّ شاردة وواردة، وهو المسؤول عن آخر الجرائم بحقّ الوطن في انفجار المرفأ.

المسارعة إلى اتّهام الخارج ليس سوى تبرئة للمسؤولين في الداخل عن انتهاك الدستور والسيادة وانهيار الدولة. من يصوّب على غير أعداء الثورة المعروفين بأسمائهم الحقيقية أو المستعارة، هو إمّا ثورجي أو عدوّ للثورة.

الثورجي هو المنخرط بصدق في صفوف الثورة، لكن بأفكار ومفاهيم مغلوطة عن التغيير والتقدّم والإصلاح، هو المناضل الحقيقي المتفاني الحالم بوطن جديد، لكن عدّته الفكرية ومخيّلته الثورية تجعلانه يرى الخطر في أعراض العلّة، لا في أسبابها.

من نماذجه متحدّرون من التقاليد اليسارية الذين ناضلوا في ما مضى ضدّ الإستعمار والرجعية والإمبريالية، ثم استمرّوا يسدّدون بعد الثورة على الأهداف القديمة ذاتها، فبدوا كأنّهم يخوضون المواجهة، من غير أن يدروا، للتغطية على المسؤول الحقيقي عن الإنهيار المالي والنقدي والإقتصادي والسياسي الذي بات مكشوفاً أمام الشعب اللبناني، وأمام العالم.

ومن نماذجه من شارك في الإستطلاع بالنار، وظلّ يسدّد بالرغم من انكشاف مواقع أعداء الثورة، خبط عشواء في كلّ الاتّجاهات، وأحياناً ضدّ من يُفترض أن يكونوا في خندق واحد مع الثورة. وهو أيضاً من يقع ضحية مناورات السلطة، ومن بينها مناورة الصراع على قانون الإنتخاب.