جاد حداد

رابط بين التغذية والصحة النفسية؟

16 كانون الثاني 2021

02 : 00

تؤثر الحمية الغذائية على جزء كبير من جوانب الصحة، بما في ذلك الوزن والأداء الرياضي ومخاطر الإصابة بحالات مزمنة مثل أمراض القلب والنوع الثاني من السكري. لكنها قد تنعكس أيضاً على الصحة النفسية وفق بعض الأبحاث. يُعتبر القلق والاكتئاب من أكثر الأمراض النفسية شيوعاً حول العالم. وفق منظمة الصحة العالمية، قد يصبح الاكتئاب من أبرز المخاوف الصحية بحلول العام 2030. لهذا السبب، من الطبيعي أن يتابع العلماء البحث عن طرق جديدة لتخفيف أثر المشاكل النفسية بدل الاتكال على العلاجات والأدوية المستعملة راهناً.

أصبح الطب النفسي الغذائي مجالاً بحثياً ناشئاً وهو يحلل دور التغذية في ظهور المشاكل النفسية ومعالجتها. يطرح الباحثون في هذا الإطار سؤالَين أساسيّين حول تأثير التغذية على الحالة النفسية: هل تسهم الحمية الغذائية في الاحتماء من الاضطرابات النفسية؟ وهل تنعكس المقاربات الغذائية إيجاباً على هذه الحالات؟

معالجة المشاكل النفسية

لا تزال الأبحاث المرتبطة بالمقاربات الغذائية التي تسهم في معالجة المشاكل النفسية قليلة نسبياً ومحدودة جداً.

كانت تجربة "سمايلز" من أوائل التجارب العشوائية لتحليل دور الحمية في معالجة الاكتئاب. على مر 12 أسبوعاً، تلقى 67 فرداً مصاباً باكتئاب معتدل أو حاد توصيات غذائية أو دعماً اجتماعياً بالإضافة إلى علاجهم الاعتيادي.

كانت المقاربة الغذائية المعتمدة مشابهة للحمية المتوسطية، ما يعني أنها تُركّز على استهلاك الخضار والفاكهة، والحبوب الكاملة، والأسماك الزيتية، وزيت الزيتون البكر، والمكسرات النيئة. حتى أنها سمحت بتناول كميات معتدلة من اللحوم الحمراء ومشتقات الحليب.

في نهاية الدراسة، سجّلت المجموعة التي طبّقت الحمية الغذائية المنتقاة تحسّناً أكبر على مستوى أعراض الاكتئاب. بقي هذا التحسن بارزاً بعدما أخذ العلماء بالاعتبار عوامل مؤثرة أخرى مثل مؤشر كتلة الجسم والنشاط الجسدي والتدخين. كذلك، اقتصرت نسبة من تراجعت أعراضهم في المجموعة المرجعية على 8% مقابل 32% في المجموعة التي التزمت بالحمية الصحية.

قد تبدو هذه النتائج واعدة، لكن كانت تجربة "سمايلز" صغيرة وقصيرة الأمد. لذا لا بد من إجراء دراسات أكبر حجماً وطويلة الأمد لاختبار النتائج على جماعات سكانية إضافية.

سيكون تكرار هذه النتائج أساسياً لأن الأبحاث لا تُجمِع عليها بعد. في دراسة شملت 1025 شخصاً راشداً مثلاً، كان المشاركون بدينين أو من أصحاب الوزن الزائد وقد واجهوا على الأقل أعراض الاكتئاب الخفيف. حلل الباحثون في هذه الدراسة أثر مُكمّل متعدد المغذيات ونشاط سلوكي مرتبط بالطعام على نتائــــج الصحة النفسية.

لم يرصد الباحثون فرقاً كبيراً في نوبات الاكتئاب مقارنةً بمفعول الدواء الوهمي بعد مرور 12 شهراً. لكن اكتشف تحليل تجميعي فيه 16 دراسة عشوائية خلال السنة نفسها أن المقاربات الغذائية خففت أعراض الاكتئاب بدرجة ملحوظة، لكنها لم تؤثر على القلق.

يصعب إذاً استخلاص استنتاجات جازمة بناءً على الأبحاث الراهنة، وتزداد صعوبة هذه المهمة لأن نوع المقاربات الغذائية التي تخضع للتحليل كان مختلفاً بين دراسة وأخرى.

بشكل عام، ثمة حاجة إلى إجراء أبحاث إضافية حول أنماط غذائية محددة وعلاجات المشاكل النفسية. كذلك، لا بد من طرح تعريف نموذجي لمعنى الحمية الصحية وتحديد معايير الدراسات الكبرى والطويلة.


ماذا عن المكملات الغذائية؟


بالإضافة إلى الأنماط الغذائية، يهتم العلماء أيضاً بطريقة تأثير المغذيات الفردية التي تكون من نوع المكملات الغذائية على الصحة النفسية.

رصد العلماء روابط بين تراجع مستويات بعض المغذيات (مثل حمض الفوليك، والمغنيسوم، والحديد، والزنك، والفيتامينات B6 وB12 وD) وتعكّر المزاج والشعور بالقلق ومخاطر الإصابة بالاكتئاب. لكن لم تتأكد بعد الأدلة المرتبطة بوجود رابط بين زيادة استهلاك تلك المغذيات على شكل مكملات وحصد منافع إضافية على مستوى الصحة النفسية.

إذا كنت تفتقر مثلاً إلى المغنيسيوم، قد تساعدك المكملات على تحسين أعراضك. لكن إذا كنت تحصل أصلاً على كميات مناسبة من المغنيسيوم عبر الحمية الغذائية، لا شيء يؤكد على منافع المكملات في هذه الحالة.

أحماض الأوميغا 3 الدهنية هي دهون أساسية لها دور محوري في نمو الدماغ وإشارات الخلايا. تناقش مقالة في مجلة "حدود في علم وظائف الأعضاء" الآلية التي تجعل هذه الدهون تُخفّض مستويات الالتهاب. ونظراً إلى مفعولها المضاد للالتهاب وأهميتها للحفاظ على صحة الدماغ، حلل العلماء عناصر الأوميغا 3 لتقييم آثارها المحتملة على الصحة النفسية.

ثمة حاجة إلى إجراء أبحاث أخرى طبعاً، لكن اكتشفت مراجعات لتجارب عشوائية في العامَين 2018 و2019 أن مكملات الأوميغا 3 تكون فاعلة لمعالجة القلق والاكتئاب لدى الراشدين. لكن كما هو الوضع مع مكملات الفيتامينات والمعادن، لم يتّضح بعد مدى قدرة مكملات الأوميغا 3 على تحسين المزاج لدى معظم الناس ولا يمكن اعتبارها علاجاً فاعلاً لتراجع كمية الأوميغا 3 المستهلكة.

ثمة نقص كبير في المعلومات المرتبطة بأخذ المكملات لتحسين الصحة النفسية، بما في ذلك تحديد الجرعات المثالية لمختلف الجماعات السكانية وتقييم فاعليتها وأمانها على المدى الطويل. لهذه الأسباب، يوصي الخبراء بتلقي معظم تلك المغذيات المفيدة عبر تبنّي حمية صحية ومتنوعة. على كل من يظن أنه يعجز عن تلبية حاجاته الغذائية عبر الحمية وحدها أن يناقش احتمال أخذ المكملات الغذائية مع طبيبه أولاً.

رغم ضرورة إجراء أبحاث إضافية، ترصد الدراسات المبنية على مراقبة المشاركين رابطاً بين نوعية المأكولات المستهلكة والصحة النفسية. لكن لا يزال السبب الكامن وراء العلاقة بين التغذية وهذا الأثر مجهولاً. تتعدد النظريات المطروحة حول طريقة تأثير الحمية الغذائية على المزاج أو احتمال الإصابة بحالات مثل الاكتئاب والقلق.

يظن بعض العلماء أن الآثار الالتهابية التي تعطيها أنماط غذائية محددة قد تفسّر الرابط بين الحمية والصحة النفسية. يبدو أن عدداً من الحالات النفسية يرتبط بارتفاع مستويات الالتهاب.

تكون الحميات المرتبطة بتحسين الصحة النفسية مثلاً غنية بالفاكهة والخضار والحبوب الكاملة والدهون الصحية، علماً أن هذه الأغذية كلها تحتوي على نسبة عالية من العناصر المضادة للالتهاب. تدعم مراجعة لدراسات مبنية على المراقبة هذه النظرية، فقد برز رابط بين الحميات الغنية بمضادات الأكسدة والأغذية المضادة للالتهابات وتراجع مخاطر الاكتئاب. مع ذلك، لا يفهم العلماء حتى الآن حقيقة العلاقة بين الحمية الغذائية والالتهاب وتقلبات الصحة النفسية.

يتعلق تفسير محتمل آخر بتأثير الحمية المحتمل على الجراثيم في الأمعاء، أي ما يُسمى على نطاق واسع البيئة الميكروبية المعوية. ترصد الأبحاث المتواصلة رابطاً قوياً بين صحة الأمعاء ووظيفة الدماغ. تنتج الجراثيم السليمة في الأمعاء مثلاً حوالى 90% من السيروتونين، وهو الناقل العصبي الذي يؤثر على المزاج.

على صعيد آخر، تكشف أبحاث سابقة وجود رابط محتمل بين الحفاظ على بيئة ميكروبية سليمة في الأمعاء وتراجع معدلات الاكتئاب.

تعطي الحمية الغذائية تأثيراً قوياً على الصحة وتنوّع البيئة الميكروبية المعوية، وقد تشمل هذه النظرية تفسيراً واعداً للرابط بين نوعية المأكولات المستهلكة والراحة النفسية عموماً.

أخيراً، قد تلعب الحمية الغذائية دوراً غير مباشر أيضاً في مجال الصحة النفسية. قد يكون أصحاب الحميات الصحية أكثر ميلاً إلى تبنّي تصرفات مرتبطة بتراجع مخاطر المشاكل النفسية، مثل المواظبة على النشاطات الجسدية والنوم السليم والامتناع عن التدخين.

تعقيدات الصحة النفسية

في النهاية، يجب ألا ننسى أن عوامل عدة قد تؤثر على العادات الغذائية والصحة النفسية معاً.

وفق موقع MentalHealth.gov، تتعدد المتغيرات التي تؤثر على المشاكل النفسية، منها العوامل البيولوجية مثل المعطيات الوراثية، وتجارب الحياة، والتاريخ العائلي. كذلك، قد تتأثر الصحة النفسية بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية وبالقدرة على تأمين الطعام ونوعية الحمية عموماً.

في المقابل، قد تؤثر الصحة النفسية على عادات الأكل أيضاً. من الشائع مثلاً أن يلجأ الناس إلى مأكولات غير صحية، مثل الحلويات أو الوجبات عالية التصنيع، حين يشعرون بالغضب أو الاستياء.

كذلك، قد تؤدي أنواع عدة من مضادات الأكسدة والأدوية المضادة للقلق إلى زيادة الشهية ونوبات الأكل العشوائية. في الحالتَين معاً، قد تزيد صعوبة الالتزام بحمية صحية بسبب المشاكل النفسية.

قد تكون الحمية عاملاً مهماً للحفاظ على الصحة النفسية إذاً، لكن يتأثر المزاج طبعاً بجوانب أخرى من الحياة.

خــــــــــلاصــــــــــة


باختصار، لا تزال دراسة التغذية وطريقة تأثيرها على الصحة النفسية مستمرة. لا بد من إجراء أبحاث إضافية عن هذا الموضوع، لكن تكشف الدراسات الراهنة أننا نستطيع التأثير بدرجة معينة على صحتنا النفسية عبر خياراتنا الغذائية. في مطلق الأحوال، تبقى الحمية الغذائية مجرّد جزء بسيط من الصحة النفسية التي تدخل في خانة المواضيع المعقدة. على كل من يواجه أعراض الاكتئاب أو القلق أو يحمل مخاوف عامة حول صحته النفسية أن يتعاون مع اختصاصي جدير بالثقة لوضع خطة علاجية تناسب حالته.



MISS 3